رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمومة منقوصة


الليلة.. الليلة ينتهى كل شىء.. لم أعد أحتمل.. الثقل يضغط على روحى، جسدى، لا أكسجين أتنفسه، بل عادم وعوادم وعدم، لكل الأشياء بداية، لكن النهاية بعيدة بعيدة، الأيام تكرارات للألم وللمهانة، انقطع خيط الأمل، انقطع منذ سنوات لكن كنت أتحرك على قضيبين بالدفع الذاتى.
هذه هى الفرصة الوحيدة لكى يكونوا معى، أن نمضى سويًا، أن نرحل عن هذا العالم الذى لا يتيح لى فرصة أن أمارس أمومتى، هناك لن تكون هناك رقابة، فقط عين الله الرحيمة وقلبه الأم، هناك سيلهمنى الله وسأتعلم كيف أكون أُمًا. دون تشويش دون صخب، تستقيم الأشياء المعوجة، تعتدل القبيحات، أعود للفطرة التى شوهتها الضغوط والخوف من الفقد، خوفى عليهما جعلنى أستجيب مرغمة لضغوطهم وأترك لهم طفلىّ، وكنت أنام، أنام.. كيف يتوقع أحد أن أستيقظ وخلاياى بعيدة عنى، ليس أمامى غير الخمول، النوم حتى لا أفكر، الكل يلومونى أنت من تركتى طفليك، هل يصدقون أننى لم أكن أمتلك إرادة الإجابة أو الرفض، بدا الأمر دائمًا وأنهم سيوفرون الراحة لطفلى أحسن منى، فى أسبوعى الأول، بعد ولادة «محمد» كنت أتساقط من التعب، وصغيرى لا يريد أن يرضع منى، لم يخرج البنج من جسدى، فكانت عضلاتى واهنة، لا تستطيع حمله، تتهاوى كفرع لبلاب، كنت أحتاج لدعامات، لكن اليد التى امتدت لى، كانت يد حدأة، غراب خاطف، قوية صلبة، كأنها واحدة من الآلهة، «حماتى» التى لا تكل ولا تتعب، تسهر وتسهر، لم تكن تحتاج لراحة، وأنا منعدمة الحيلة. ما بين الألم والضعف، يسهل أن يتم غسل مخك، وتشكيلك كما يهوى الآخر. كانت الطرقات خفيفة، واعية، «مش هتقدرى تربيه، الولد هيموت منك، أنت مش أم أبدًا، إيه الخيبة دى، حاسبى، حاسبى، الولد هيتخنق، صدرك كبير عالفاضى، معقول تنعسى والواد مفطور من العياط». كانت الطرقات واعية متنوعة، مركزة، تبدو عفوية، ناصحة، ملهوفة، مسيطرة، كل نقرات الماء كانت: «أنت فاشلة، فاشلة، فاشلة،..».
خفت، خفت، كنت أخاف حتى أن ألمسه، كان طريًا لدنًا صغيرًا وكنت مرعوبة، كل ما أفعله خطأ، قد يختنق فى صدرى، ذراعى فد تكتم نفسه، كان لا حيلة له، وكنت ألعوبة، دون خبرة، أحبطنى زوجى لا يريد للصغير أن ينام فى الغرفة معنا، أقضى الليلة فى الصالة، أصيب بالتهاب، صرخَت حماتى: لا.. كده ما ينفعش، الولد هيموت، أنا سآخذه معى، جمعت ملابسها وأخذت ابنى منى وأنا تائهة، ممتنة أنها تنقذ ابنى من فشلى، أى جميل طوقت عنقى به؟، أى فضل؟، لم يخبرنى أحد أن الأمومة فطرة، وليست قدرة، وأن ما أفعله لابنى وهو فى حضنى لن يضره، لم يرنى الآخرون أُمًا فاشلة؟، لا توجد أم فاشلة، لم يلحظوا توهانى، تيهى، وعجزى، لم يلمس أحدهم جلدى المتكلس ولا اشتم رعبى، كنت لهم «امرأة تبحث عن راحتها، باعت ابنها لتشترى رضا زوجها، فى البيت مع زوجها وحماتها فاشلة، يحتاج طفلها لرعاية لا تستطيع توفيرها»، تصورت أن الأمومة مستحيلة وأنها منحة يعطيها الله لبعض النساء ويحرمها عن البعض الآخر، وارتضيت بقدرى، لكن الدوامة التى جعلتنى أنفر من الآخرين.. شقيقتى، زميلاتى فى العمل، هى اتهامهن لى بأننى أضر ابنى، وأننى سأدفع الثمن، وأننى سأفقد ابنى للأبد، من أصدق؟ هم الآخرون كانوا قساة، يتباهون بمنحة أعطاهم الرب إياها وحرمنى منها. لكن لكل شىء نهاية وسأضع الليلة حدًا لألمى وتوهانى..
مقطع من رواية قادمة