رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الصحافة الورقية والتليفزيونية.. القاتل مأجور


أجرت هاياشى كاورى، أستاذ دراسات المعلومات فى جامعة طوكيو، مقابلات مع العديد من المديرين التنفيذيين فى الصحف اليابانية، للوقوف منهم على استراتيجية أعمالهم القادمة، لمواجهة التوجه الرقمى فى صحافة بلادهم، وتأثير هذا التوجه على الصحف الورقية، بالرغم من ارتفاع أرقام توزيع الصحف الورقية بشكل ملحوظ فى اليابان.. فمن بين الصحف الوطنية الكبرى، تأتى صحيفة «يوميورى شيمبون» كأكبر الصحف اليابانية انتشارًا، بحجم توزيع يصل إلى ما يقارب عشرة ملايين نسخة يوميًا، وتحتل صحيفة «أساهى شيمبون» المرتبة الثانية فى سلم التوزيع، برقم يعتبرونه خجولًا نسبيًا يصل إلى ثمانية ملايين نسخة.
أمّا الصحف الإقليمية هناك، فعادةً ما تصل إلى ٥٠٪ من البيوت فى أسواقها المحلية، ويتفاخر عدد لا بأس به من هذه الصحف بأن نسخهم تصل إلى ٦٠٪ من هذه البيوت.. المهم، أن كل واحد ممن شملتهم المقابلة، عبر عن نفس القلق من أن أى تحول كبير نحو المحتوى الرقمى المدفوع، من شأنه أن يؤدى إلى رد فعل عنيف من الموزعين المحليين الذين تقوم شبكاتهم بتوصيل الصحف إلى المنازل، خاصة أن ناشرى الصحف اليابانية اعتمدوا مجموعة من الاستراتيجيات لجذب القُرّاء الشباب، لكنها لم تنجح فى معالجة المشكلة الأساسية بشكل مباشر. ويبدو أن هؤلاء الذين بنوا إمبراطورياتهم منذ سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، باتوا عاجزين عن القيام بأى شىء سوى التعبير عن قلقهم لأن التحول إلى الإعلام الرقمى يهدد وجودهم بالفعل.
ومع هذا لم يقف البعض مكتوفى الأيدى حيال ما يعترض مستقبل صحفهم من تهديد، فذهبت صحيفة «يوميورى شيمبون»، وهى الأكبر بين الصحف اليومية فى اليابان، إلى جعل طبعتها الرقمية المدفوعة، «يوميورى بريميوم»، متاحة فقط للمشتركين بالصحيفة المطبوعة.. وبالمثل، فإن «أساهى شيمبون» و«نيبون كيزاى شيمبون» قامتا بالإعلان عن حزم الصحف المطبوعة والرقمية معًا، ولا تشجعان زبائنهما على الاشتراكات الرقمية فقط، والتى تم تسعيرها بشكل قريب من حزم الاشتراكات المطبوعة والرقمية. بينما أشارت معظم الصحف الإقليمية إلى أن مواقعها على شبكة الإنترنت تحمل محتويات مجانية فقط على شكل «مواد مثيرة» تهدف إلى إثارة الاهتمام بالنسخة المطبوعة.
كانت هذه مقدمة ضرورية، لتجربة كوكب اليابان، واستماتة صُناع صحافته على بقاء صناعتهم حية، مستعصية على الموت، كما هى الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية. صحيح أنه انخفض إجمالى إيرادات الصحف فى اليابان خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وإن لم يكن ذلك بشكل حاد كما هى الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.. ومع حلول عام ٢٠١١، انخفضت عائدات الصحف بنسبة زادت بنحو ٢٠٪ على ذروتها التى بلغت ٢٫٥٣ تريليون ين عام ١٩٩٧.. ذلك بفضل صناعة جعلت من الصحافة قائدة للمعرفة عبر الصحيفة، وليست عبر الفيسبوك، كما فى أنحاء العالم.. ومن بينها مصر، التى باتت الصحافة فيها على شفا حفرة من نار الإفلاس والإغلاق، حتى فى مؤسساتها الصحفية الكبرى، وهو أمر لم يأت من فراغ، لكنه نتاج نمو بطىء فى ظاهرة انحسار التوزيع، وعزوف القارئ عن شراء صحيفته، جاءت ذروته مع نشوء وتطور مواقع التواصل الاجتماعى، بالتزامن مع إفراغ الصحف من وظيفتها الأساسية كمصدر صادق للخبر، حتى بات ما كان يُشاع عما تنشره من أنه «كلام جرايد»، حقيقة واقعة.
وعزفت هذه الصحف عن كونها مُعبرًا أصيلًا عن أصوات قرائها، وبعدت عن وظيفة التحليل والتفسير لما يجرى حولهم، وأصبحت مجرد ناقل لأحداث ووقائع، جعلت منها مواقع التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية «أخبارًا بايتة»، وأصبح عنوان الحالة، هو صوت القارئ الذى يقول: «لماذا أدفع مقابلًا، لما يمكننى الحصول عليه مجانًا؟»، وكنا من قبل قد فقدنا قطاعًا عريضًا من القُراء، لم نصنع يومًا علاقة بينه وبين الصحافة المطبوعة، وأقصد به سكان القرى والنجوع والمناطق النائية، وتركز جُلّ اهتمامنا بالمدن الكبرى والوسيطة، وتلك المناطق التى تأتى على مسار خط التوزيع الرئيسى للصحف والمجلات.
تجربة اليابان فى ذلك تقول إن الصحف كانت دائمًا أكثر من مجرد وسيلة للحصول على الأخبار، فقد احتل الـ«Paper Boy» أو ما يُعرف بـ«صبى توزيع الصحف»، مكانًا بارزًا فى المجتمع اليابانى فى سنوات النمو السريع بعد انتهاء الحرب العالمية.. وقد عمل العديد من الشباب- الذين احتشدوا فى المدن لمتابعة التعليم العالى- فى منافذ التوزيع التى دعمتهم ماديًا من خلال توزيع الجرائد اليومية، خاصة أن عددًا لا بأس به منهم تلقى منحًا دراسية سخية من المؤسسات الصحفية، وهو الدور الاجتماعى المفترض أن يكون لدور الصحف ويُمثل جزءًا من السبب فى شعبيتها بين قراء إصداراتها.. وفى المجتمعات الريفية، والتى تمت الهجرة منها وتعج بالمسنين، أدخل الموزعون خدمات تأجير الكراسى المتحركة لعملائهم أو الزيارات المنزلية للاطمئنان على من يقطنون منازلهم بمفردهم منذ سنوات ما بعد الحرب مباشرة، واستطاعت الصحف بهذا الأسلوب تأمين قدر كبير من المشتركين الأوفياء، من خلال المساهمة فى المجتمع المحلى بتقديم الخدمات لهم، مُغطّيةً بذلك ثغرات الحكومة المحلية والمركزية، ولعل تلك هى بعض من الأسباب الكامنة وراء تغلغل الصحف اليابانية بقوة فى الحياة والثقافة اليابانية.
المهم.. أن الصحافة حادت عن رسالتها، واكتفى بعضها بتسويد صفحاتها دون اهتمام بالمحتوى، وعجزت عن مواكبة عصر الصحافة الرقمية، بما يحافظ على ارتباط القارئ بها، وعدم التفريط فيه، وكأنما نحن قتلة مأجورون، دُفعنا نحو اغتيال وظيفة الصحافة السامية.. وقد ذهب فى نفس الاتجاه، ما نشأ عنها من صحافة تليفزيونية، أو ما يُعرف مجازًا بـ«التوك شو»، التى اتخذت من الإثارة عنوانًا لها على حساب الحقيقة، وأعلت من قيمة المشاهدة على متطلبات المهنة، وعلا صوت الإعلان على الإعلام، وعجزت جميعها عن أن تكون على قدر بلد بحجم مصر، وعلى مستوى ما يدور على أرضها من إنجازات أو فعاليات، تنتصر لقيمة الإنسان فى كل مكان، وتسترد بها مصر مكانتها بين شعوب العالم، وريادتها على من حولها.
باختصار.. عندما يكون هناك صحفى حاصل على شهادة «التلمذة الصناعية»، وعندما نسمح بانضمام البعض إلى كيانات نقابية بشهادات دراسية مزورة، عندما يكون اختيار قيادات الإعلام على أسس غير موضوعية، تجافيها الشفافية والانتصار للمهنة، عندما لا يجد الصحفى فى آخر كل شهر بين يديه ما يعينه على الإنفاق على بيته وأولاده بأريحية، عندما نُعامل أساتذة المهنة وشيوخها بالاستخفاف بمن بلغ سن المعاش، فنحن بإزاء حالة من القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد للإعلام المصرى، ويكون هناك دائمًا القاتل المأجور، الذى تم الدفع به للإجهاز على صاحبة الجلالة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.