رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرملة الحاج رامى

جريدة الدستور

هى تعرف مكانه فلا شك أن الولد الكبير الملقب بالزعيم أخذ الكوب الذى تدع طاقم أسنانها فيه وملأ حلة كبيرة بالماء وصاح بالشلة: هيا نطلق السمكة من الكوب! البحر فى انتظاركَ يا طقم تيتة!
منذ مات زوجها وهى تخاف منه!
يجيئها فى نومها ويُلَمِّح لها تلميحات مرعبة، كان قد زعم وهو على فراش الموت أنها ستلحق به بعد ثلاث! يومها كرهته بقدر ما أشفقت عليه وقالت لنفسها: أضغاثُ احتضار.
لكنه يتحداها ويجيئها فى ظلام الليل متلفعًا بالألغاز فتحاول ألَّا تفهم شيئًا مما يقول!.
كان قد تزحلق فى الحمام فانكسرت عظام حوضه، ولا تزال صرخَتُهُ فى رأسها تَرِنُّ، وهى الآن تعانى من خشونة عظام ركبتيها، وتتحرك بمشَّايَةٍ تتكئ عليها منحنية وهى فى طريقها من وإلى الحَمَّام وعلى كتفيها ثمانون عامًا متراكمة.
فى المنزل الذى تركَهُ الحاج رامى ومضوا به ليبتلعه القبر تعيش، ومعها زوجة ابنها رزق وأحفادها منه، ذلك الذى ترك امرأته وابنته وابنه وأمه لتبتلعه الغُربةُ فى كندا منذ أعوام.
لها معاشُ الحاج رامى وهذا أفضل ما فعله فى مماته!. عاش حياته يحرمها من القرش ولم يذكر لها مرة كم يتقاضى من الحكومة. زوجةُ ابنها تذهب كل شهر إلى البنك فتصرف معاش المرحوم، تعطيها منه ما يفى بحاجتها لشراء الأدوية، وتحتفظ بالباقى ضمن مصروف البيت ولا تدرى أرملة الحاج رامى كم يبلغ المعاش. معاش كبير أعرف ذلك. جميعهم يحاولون خداعى! ثم إنها تعرف أن ابنها يرسل لها على حساب زوجته بعض المال لكنها لا تجرؤ على السؤال عن ذلك المال.
لو تخلت عنها زوجة ابنها فالكارثة محققة.
لها ابن آخر متزوج يعيش مع أولاده وزوجته فى مدينة قريبة، يأتى إليها مرة واحدة كل أسبوع. تفرح بقدومه وتحتضن أبناءه وتبكى. دائمًا تبكى. امرأته هى التى تقوم بأعمال المطبخ وشئون البيت فى ذلك اليوم، ويجتمع الشمل حول الجدة على مائدة الغداء والعشاء وتبكى قائلة بين دموعها: ابنى رزق وحشنى يا ولاد!. ترمقها شزرًا امرأته: أمال أنا أعمل إيه؟! يا عينى عَلَيَّا!. وتتنهد وهى تضع قطعة لحم إضافية فى فم ابنتها ليلى. زوجى مسافر من سنتين وشهر يا ناس!.
فى هذا اليوم من أيام الأسبوع ترتاح فوقية من شغل البيت وخدمة حماتها، وتترك الأطفال جميعًا أبناء العمَّينِ يلعبون بحرية مطلقة فلا تنهرُ أحدًا منهم مهما فعل، ربما لكى تُنهكَ زوجة أخيها بينما تصرخ الجدة باحثة عن طقم أسنانها فيقال لها:
- قلنا لك ألف مرة لا تقلعيه والأولاد جميعًا هنا! عندما يجتمع شملهم يتحولون إلى عصابة متوجشة!
- مش بكيفى لكن لثتى بتوجعنى!
وهى تعرف مكانه، فلا شك أن الولد الكبير الملقب بالزعيم أخذ الكوب الذى تدعه فيه وملأ حلة كبيرة بالماء وصاح بالشلة: هيا نطلق السمكة من الكوب! البحر فى انتظاركَ يا طقم تيتة!!
وعندما تنتهى قبلات التوديع ويأخذ صابر امرأته سعيدة وابنه وبنته ويعود إلى البلد التى يقيم ويعمل به تستأنف فوقية حمل المهمة الصعبة على كتفيها.
وفجأة ترعرعت فرحة عظيمة فى وجه فوقية:
- رزق بعت لى دعوة أسافر له كندا!
- وأنا؟!
الصرخة عالية والمفاجأة مدوية
- وستأخذين الطفلين معك؟
- طبعًا! وهل أستطيع تركهما هنا؟
- وأنا؟ رِجلى على رِجلك!
- ماليش دعوة، كلمى ابنك!، قالتها وهى لا تستطيع إخفاء فرحتها
يطمئنها ابنها إسماعيل وهو يقدم لها الحلوى التى تحبها:
- ما تقوليش كده يا ماما، انتى فى عينينا.
- ماليش دعوة، لازم يبعت لى دعوة وأسافر كندا أنا كمان. أنا أمك يا جاحد، تبعت لمراتك وتنسانى؟!
- يا أمى أنت تذهبين إلى دورة المياه بصعوبة، قال وهو يمسح فمها بمنديل مبتل:
- ماليش دعوة! لازم أسافر. ما استغناش عن الأطفال، هيسافروا ويتركونى أموت من الحسرة والندامة.
- عندك أطفالى يا أمى، وسعيدة تخدمك برموش عينيها. هتعيشى معانا معززة مكرمة.
قالت لزوجة ابنها: لما يكلمك الواد رزق قوليلى عشان أكلمه، وحلفتها بروح المرحومة أمها. وجعلت تبكى حتى بللت الهاتف المحمول وابنها البعيد عن عينيها يحاول شرح الموقف عبر الماسنجر لكنها لم تستجب إلا بمزيد من الدموع. كندا فيها دكاترة كويسين يعالجو رُكَبِى. يمكن يحطولى رُكَب جديدة. أبوك بيجيلى فى المنام ويخوفنى. لو مراتك وعيالك سافروا من غيرى مش هتشوفنى تانى خلاص. هموت من غير ما تشوفنى. أنا أمك يا ضنايا، أستنى هنا أعمل إيه يا رزق؟
- حاضر يا ماما هابعت لك دعوة وتذكرة سفر
واتصل بأخيه بعد نصف ساعة:
- أرجوك يا خويا اقنع أمنا تطَلَّع موضوع السفر ده من دماغها. هى تقدر تسافر إسكندرية لما تقول أسافر كندا؟!
- ماكانش مفروض تعشمها وتقول لها هابعت لك دعوة وتذاكر.
- يعنى أنت بتتهرب من المسئولية؟
- مسئولية إيه؟ والله أخدمها أنا ومراتى ولا أنتظر شيئًا.
- أرجوك يا أخى حاول معاها. لا أريدها تتعشم حتى يحل موعد السفر وترى فوقية والولد والبنت خارجين قدام عينيها تقع من طولها!
وفى اللقاء الأسبوعى، عندما رأت إسماعيل داخلًا عليها ومعه امرأته وطفلاه قالت وهى تحتضن البنت وتقبل خديها:
- لو كان أبوكى يرضى آخدك كندا معايا والله كنت أخدتك يا حبيبتى. انتى حجمك صغنطوط أحطك فى شنطة سفر ومن غير تذكرة تلاقى روحك فى كندا مع جدتك اللى بتحبك زى عينيها. كلكم حبايبى والله.
وتبكى فتحمَرُّ عيناها اللتان كأنهما بلا رموش. هنسافر إمتى يا ولاد؟! أنا خلاص مش قادرة أصبر.