رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزاهد.. لماذا يكرهون سعد الهلالى؟


تربطنى بالدكتور سعد الهلالى صداقة ومحبة، وله فى قلبى مكانة كبيرة، ويحدث أن نختلف معًا، وهذا من الأمور الطبيعية، ولكننا حينها نرحب بالاختلاف ونجعله وسيلة للثراء المعرفى، وحينما أختلف معه أعرف قدره وعلمه ورجاحة عقله، لذلك أضع نفسى أمامه فى موضع التلميذ الذى يتعلم من الأستاذ.
وللدكتور سعد وثبات فكرية قد لا يتحملها أصحاب الجمود العقلى فيرجمونه ويتهمونه فى دينه، وهو مع ذلك يتحمل ما يلاقيه ويستكمل مسيرته وكأن أحدًا لم ينل من دينه وعرضه، وهكذا هم أصحاب الدعوات الإصلاحية، ولأنه من الرموز الفقهية الكبيرة فى الفقه المقارن فقد أخذ طابعًا معينًا فى تناول المسائل الفقهية المختلف فيها، فهو يعرض كل الآراء ويطلب من المسلم أن يأخذ ما يشاء منها، لأن الإسلام يسع كل هذه الآراء، ولكن هذا لا يُرضى أصحاب الفقه الواحد والرأى الواحد.
وهو فى منهجه التدريسى فى كليته يقوم بشرح كل الآراء الفقهية للطلاب، ثم يطلب منهم أن يأخذوا بالرأى الذى يرونه، وقد تعرض للمساءلة داخل الأزهر بسبب هذا المنهج، وقيل له لا تترك الطالب يختار ما يشاء لنفسه، ولكن قم أنت بالاختيار بدلا منه، فقل إن مذهب كذا هو الذى عليه الأمة، لكن ضمير الدكتور لا يقبل هذا أبدا، وهو يُدِّرب طلبته على التفكير، ولا يقبل هذه النوعية من التعليم التلقينى، أو ذلك الفقه المُعَلَّب سابق التجهيز.

عندما طرح من قبل فكرة وجوب أن يكون الطلاق مكتوبا وعليه شهود لكى يقع طالما أن عقد الزواج كان مكتوبا وعليه شهود، قامت الدنيا ولم تقعد، وعندما أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى لتلك الفكرة كى يشحذ عقول علماء الأزهر للتفكير هاجت ثائرة العلماء على الهلالى وعلى الرئيس.
المهم أننى عندما قرأت رد هيئة كبار العلماء على ما أشار إليه الرئيس، وجدتهم يقولون بـ«وقوع الطلاق الشفوى المستوفى أركانَه وشروطَه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبى- صلَّى الله عليه وسلَّم- وحتى يوم الناس هذا، دون اشتراط إشهاد أو توثيق»، ومعنى هذا أنهم يقولون لنا هذا ما ألفينا عليه آباءنا! تماما مثل قول الله تعالى فى بعضهم «قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ»، فراعنى هذا التخريج لأنه يخالف طرق الاستدلال والاستنباط، ثم سمعت الدكتور الهلالى وهو يؤسس لرأيه فيقول ما معناه: «نعم يا سادة يا أجلاء كانت الأمة على هذا، ولكنها كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وليس من ثقافتها الكتابة، وكانت أمورهم تسير وفقًا للمعاملات الشفوية، وظل رجال الأمة يتزوجون شفويا إلى زمن قريب، فكان من الطبيعى أن يكون طلاقهم شفويا، فما انعقد شفويا يتم حله شفويا أيضا»، وكان مما قاله أيضا «ثم دخلت الأمة إلى عصر الكتابة والتوثيق، ودخلت المطبعة التى كان علماء الأمة يحرمونها عندما دخلت، ودخل توثيق العقود، وأنشأنا وظيفة المأذون، إذن أليست هناك حتمية منطقية بأن يتم إنهاء عقود الزواج المكتوبة بنفس الطريقة التى انعقدت بها ألا وهى الكتابة؟».
ثم وجدت الدكتور سعد بعد ذلك يرد على منطقهم قائلًا ما معناه: «إن الادعاء بأن الطلاق يتم دون إشهاد منذ عهد النبى، أى دون شهود، هو ادعاء غير صحيح، لأن ابن حنبل قال بوجوب الإشهاد على الطلاق، ومن قبله ابن عباس، ترجمان القرآن، وكذلك قال ابن حزم، وصولا إلى العلامة أحمد شاكر فى العصر الحديث، بل إنه أحد الأقوال فى المذهب الشافعى، كما أن معظم علماء التفسير قالوا بذلك أيضا ومنهم الإمام الثعالبى، والجصاص، والواحدى، والبغوى، وإبراهيم بن عمر بن حسن الرباط البقاعى الدمشقى الخرباوى فى (نظم الدرر) وقال بمثل ذلك أيضا الألوسى فى (روح المعانى)»، وبطبيعة الحال لم يستطع أحد من هيئة كبار العلماء الرد على الهلالى، وكما يقول المثل «كفوا على الخبر ماجور».
والحقيقة أن الاختلافات الفقهية ليست هى السبب الحقيقى فى غضب «الأزهر الرسمى» من الدكتور سعد، ولكنهم نقموا منه أنه يقف ضد ما يُسمى «سلطة علماء الدين»، وقد حضرت نقاشًا كان فيه صديقى وكان أحدهم يهاجم النصوص الدينية ويقول إن سلطة النص الدينى هى سبب التطرف، فرد الدكتور قائلا: لا، ولكن المشكلة فى «سلطة عالم الدين» أو الذى جعل نفسه عالما يتحدث باسم الله سبحانه، هذه السلطة جعلته بمثابة «رجل دين» لا يمكن أن يفهم الناس دينهم مباشرة من القرآن والثابت من الأحاديث إلا من خلاله، فيكون لهذا العالم السلطة فى إخراج هذا من رحمة الله، وفى إدخال هؤلاء فى رحمته.
إذن سلطة رجل الدين هى المشكلة مع الدكتور سعد، لأنه يقول للناس تحرروا من التبعية لآراء هؤلاء واعلموا أن ما يجتهد فيه هؤلاء العلماء إنما يُنسب لأنفسهم ولا ينبغى أن يُنسب لله رب العالمين، فهذا هو رأى الإمام مالك، وفهم الإمام الشافعى، وإدراك أبوحنيفة وابن حنبل، كلامهم حجة عليهم ولا يمكن أن يكون حجة علينا، وإذا جاز لهم أن يجتهدوا فيجوز لنا أن نجتهد، ولكم أيها الناس أن تطرحوا كل هذا وتختاروا لأنفسكم ما تشاءون، شريطة ألا يُلزم أحدُكم الناس برأيه، جريمة الدكتور سعد أنه أراد للناس أن يتحرروا من سلطة كهنوتية كتبناها على أنفسنا وما كتبها الله علينا.
وحتى ما أثير مؤخرًا فى خصوص الوصية والميراث، فالهلالى لم يأت بشىء من عنده، هل يمكن أن تتفاجأوا مثلا بأن كل ما قاله الهلالى هو أنه قرأ لنا آيات القرآن، قرأ قول الله: «كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًا على المتقين»، وبداية الآية فيها إلزام بالوصية، وجاء الإلزام عن طريق كلمة «كُتب»، وهى نفس الكلمة التى قال الله قبلها بثلاث آيات «كُتب عليكم القصاص»، وهى أيضا نفس الكلمة التى قالها فى آية الصوم بعدها بثلاث آيات «كُتب عليكم الصيام»، أى هى فى النصف بين القِصاص والصيام، ثم يثور علماء الأزهر ويقولون إن الرسول قال «لا وصية لوارث» و«لا وصية إلا فى حدود الثلث» وكأنهم بذلك يقولون إن الأحاديث ظنية الثبوت تنسخ آيات القرآن قطعية الثبوت.
الوصية أيها البؤساء قائمة، وهى للوالدين وللورثة، وهى الأصل الذى يَجُب أحكام الميراث، وللمسلم أن يوصى بكل ماله، الوصية أيها المساكين لا يمكن أن ينسخها إنسان، لأن الذى أوجبها علينا هو ربُ الناس، الوصية يا ناس لم تنسخها آية أو حديث، وآيات المواريث ما فتأ الله يقول فى نهاية كل آية من آياتها «من بعد وصية يُوصِى بها أو دين» و«من بعد وصية يوصين بها أو دين» و«من بعد وصية يُوصَى بها أو دين». ومع ذلك فالأمر متاح للجميع أن يقبل أو يرفض، لا إلزام على أحد، إن هى إلا آراء من ناس عن فهمهم للنصوص الدينية، ولا يمكن أن يحتكر أحدهم فهم النصوص ويتحدث مع الناس وكأنه المتحدث الرسمى باسم الإسلام، فليس للإسلام متحدث باسمه.
سعد الهلالى، أيها السادة، وقف مع الدولة المصرية فى قمة الأزمة التى مرَّت بها، وهاجم الإخوان وأفكارهم، رغم التهديدات التى نالها، وما إن نالت الدولة المصرية استقلالها من الاحتلال الإخوانى حتى قام أحدهم بمكافأة؟.. مكافأة من؟.. مكافأة الدكتور محمد عمارة الإخوانى القح الذى أصدر بيانا هاجم فيه ثورة يونيو وتعدى فيه بالقول على الجيش المصرى، كافأه بماذا؟ بتعيينه رئيسًا لتحرير مجلة الأزهر لكى يضع فيها أفكار الإخوان!، فقام باستكتاب كبار قادة الإخوان فى العالم فى المجلة الرسمية للأزهر مثل عصام البشير، وراشد الغنوشى، والإرهابى صلاح سلطان، وحلمى القاعود، وسليم العوا، فضلا عن فهمى هويدى وطارق البشرى وغيرهم.
سعد الهلالى وقف بكل قوة ضد أفكار سيد قطب التكفيرية التى أضلت الآلاف من شباب مصر، سعد الهلالى يقول إن القرآن الكريم كتاب هُدى مصداقا لقوله تعالى «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» ويرفض ما يتقوله البعض عن أن الإسلام عاقب الزانى المُحصن بالرجم حتى الموت، واستدل فى ذلك بالقرآن الكريم، ولكن المنهج الذى عليه الأزهر هو أن الزانى المحصن يجب أن يُرجم حتى الموت بالمخالفة لما جاء فى القرآن الكريم.
سعد الهلالى يدافع عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويستدل فى ذلك بقول الله تعالى عن الرسول «وإنك لعلى خلق عظيم»، وقوله «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وغير ذلك من الآيات، ومنهج الأزهر يقوم على أن الرسول اغتال أحدهم وفقأ عيون بعضهم، وترك البعض فى الصحراء عطشى حتى الموت بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم وفقأ عيونهم، فجعلوا من الرسول إماما للداعشية وأعوانهم، ولم ينتبه الأزهر الرسمى إلى أن الله برأه مما قالوا، ويتفنن الأزهر فى منهجه.
سعد الهلالى رفض من يقول إن الرسول تعرَّض للسحر، والأزهر الرسمى يقول بل إن الرسولَ سُحر وكان لا يعرف ماذا يقول، ويفعل الشىء ويظن أنه لم يفعله، ويرد عليهم سعد الهلالى بأن ما يدَّعونه هو نفس ما قاله الكفار حينما قال الله لنا فى القرآن ما ادعوه «إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» فوصف الله من قال ذلك بـ «الظالمون» ثم وصفهم بالضلال بقوله تعالى «انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلَّوا فلا يستطيعون سبيلا».
سعد الهلالى وقف ضد تغلغل الإخوان فى مفاصل الأزهر وفى عمادة بعض كلياتها، ولا أنسى ما حييت أنه فى لجنة إعداد الدستور وقف ضد أن يوصف الأزهر بأنه هيئة دينية، لأنه لا يوجد فى الإسلام هذا المُسمى، وكل هيئة إنما يجب أن تُنسب لنفسها لا للإسلام، وحاول أن يكون المُسمى هو هيئة علمية، ولكن مندوبى الأزهر فى لجنة الدستور أقاموا الدنيا ولم يقعدوها حتى ينال الأزهر وصف الهيئة الدينية، ونجح هو فى أن يضيف فقط كلمة «علمية» بعد كلمة «دينية».
وما فعله الأزهر هو أنهم جعلوا من أنفسهم هيئة ذات اختصاصات كهنوتية تخالف ما استقرت عليه الأمة من أن تحرير الإسلام من سلطة رجال الدين، لذلك فإنه من الطبيعى أن يدفع سعد الهلالى ضريبة دفاعه عن الإسلام، وعن الأزهر، كما ينبغى أن يكون، وهكذا يتم التشهير به لأنه يرفض تأبيد مدة اعتلاء أحدهم مشيخة الأزهر إلى أن يموت، وهكذا يتم اتهامه فى دينه وتهديده بسحب الدكتوراه منه، كما فعلوا قديما مع الشيخ على عبدالرازق، وكأنهم يقومون بدورهم الكهنوتى بشلحه من موقع دينى سبق أن رسموه فيه!.
وللأسف الذى يجعلنا نتجرع المُر من الأزهر هو أنه كان من المفترض أن يبدأ فى إعداد عدته لمواجهة التطرف والإرهاب، ووضع الخطط العلمية والفكرية الكفيلة بالقضاء على جذور التطرف، والعمل على تجديد الخطاب الدينى، وتصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة، إلا أن القائم عليه لم يأمر بتشكيل لجنة لإنجاز تلك المهمة التى هى أهم وأخطر مهمة تحتاجها الأمة فى هذا القرن! وكل ما قاله هو نفس ما قاله مصطفى مشهور منذ سنوات بأنه «ماذا نجدد؟ هل نجدد القرآن والحديث»؟، وكأن من يطالب بالتجديد إنما يطالب بتغيير القرآن أو إلغاء الأحاديث الصحيحة!.