رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماكرون فى المصيدة



أسبوع خامس من الشلل تنتظره فرنسا، ومزيد من الخسائر الاقتصادية فى الطريق، بعد أن عجز الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، عن السباحة فى مستنقع الدفاع عن النفس، وبعد أن فشلت الوعود والتدابير التى أعلن عنها، يوم الإثنين، فى امتصاص غضب المحتجين، سواء من حركة «السترات الصفراء»، أو غيرها.
فور انتهاء كلمته، أعلن المحتجون أنهم مستمرون، وأن السبت المقبل سيشهد حلقة خامسة من مسلسل قطع الطرق وإقامة الحواجز فى كل أنحاء فرنسا. كما كانت ردود فعل النقابات فى غاية القسوة، ولم تخرج الكونفيدرالية العامة للعمل «سى جى تى»، مثلًا، من الكلمة إلا بأن «ماكرون» لم يفهم شيئًا من الاحتجاجات. ولا نعتقد أن شيئًا قد يتغير بعد كلمة رئيس وزرائه، إدوار فيليب، الثلاثاء، أمام الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، التى من المنتظر أن يعرض فيها تفاصيل الخطة التى وضعتها حكومته للتغلب على الأزمة.
قال ماكرون، الإثنين، إنه يريد من رؤساء الشركات الفرنسية أن يدفعوا ضرائبهم فى فرنسا، وإنه يعتزم مكافحة «الامتيازات غير المبرّرة والتهرّب الضريبى». والثلاثاء والأربعاء، يعقد لقاءات مع ممثّلى البنوك وكبريات الشركات ليطلب منهم «المشاركة فى الجهد الجماعى» لمواجهة الأزمة. ولعل السؤال الأبرز الذى سيكون مطروحًا على جدول اللقاءات هو: كيف ستتحمل الخزانة العامة تكلفة رفع الحد الأدنى للأجور مائة يورو شهريًا؟!. وكيف سيقوم بتدبير ما بين ٨ و١٠ مليارات يورو لتغطية تكاليف وعوده أو تنازلاته؟!.
لاحظ أن المفوضية الأوروبية أعلنت، الثلاثاء، أنها ستدرس «بعناية» انعكاسات وعود الرئيس الفرنسى على ميزانية البلاد. ولاحظ أيضًا أن مورييل بينكو، وزيرة العمل الفرنسية، كانت قد استبعدت، صباح الإثنين، أى زيادة للحد الأدنى للأجور، ورأت أن تلك الزيادة من شأنها تدمير الوظائف والإضرار بسوق العمل. الأمر الذى يجعل وعود الرئيس «ماكرون» محل شك، أو على الأقل يجعل المحتجين ينتظرون إجراءات عملية تثبت ما إذا كان هناك تغير حقيقى فى المواقف أم لا، وما إذا كان هذا التغير دائمًا أم مؤقتًا؟.
القوى السياسية، يمينًا ويسارًا، لم تقتنع بما أعلنه الرئيس الفرنسى: يمينًا، أعلن برونو روتايّو، رئيس كتلة الجمهوريين فى مجلس الشيوخ، أن الرئيس قدم فى كلمته «نتائج صحيحة»، لكنه لم يعالج مشكلة الإنفاق العام، موضحًا أنه «لا يمكن أن تكون هناك تخفيضات ضريبية إذا لم يكن هناك خفض للإنفاق العام». وفى اليسار، قال جان لوك ميلانشون، رئيس كتلة «فرنسا المتمردة» فى الجمعية الوطنية، إن «ماكرون» اكتفى بتوزيع بعض النقود، وتوقع أن يشهد السبت المقبل تظاهرات كثيفة، ستكون بداية لثورة حقيقية. وكان رأى مارين لوبان، رئيسة الجبهة الوطنية، هو أن «ماكرون» أدان سياسته الاقتصادية والاجتماعية، لكنه لم يملك شجاعة التراجع عنها.
ماريان لوبان، منافسة «ماكرون» فى الانتخابات الرئاسية، كتبت فى حسابها على «تويتر»: «عند مواجهته التحدى، يتخلى ماكرون عن بعض أخطائه الضريبية وهذا جيد، لكنه يرفض الاعتراف بأن المشكلة فى النموذج الذى يدافع عنه»، موضحة أن هذا النموذج هو «العولمة المتوحشة والمنافسة غير النزيهة». وبالفعل، أدان «ماكرون» سياسته الاقتصادية والاجتماعية بإعلانه أن حكومته تدرك «الصعوبات التى يعانى منها الفقراء وذوو الاحتياجات الخاصة من الفرنسيين»، وبإشارته إلى «الحالة غير السليمة» التى لا يزال يعانى منها المجتمع الفرنسى. صحيح أنه زعم أن تلك المشكلات تراكمت على مدار العقود الأربعة الماضية، إلا أنه أقر بأن حكومته لم تتمكن من معالجة تلك المشاكل واعترف بأنه يتحمل «جزءًا من المسئولية».
مع حالة الارتباك التى أدار بها «ماكرون» الأزمة، كانت «نظرية المؤامرة» حاضرة بقوة، واللافت هو أن من طرحها لم يكن هو الأستاذ توفيق عكاشة الفرنساوى، بل جان إيف لودريان، وزير الخارجية الفرنسى، الذى أعلن أن هناك تحقيقات تجريها الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطنى، بشأن تورط روسيا فى الاحتجاجات، الأمر الذى يجعلنا نتفق، تمامًا، مع قسطنطين كوساتشوف، رئيس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الاتحاد الروسى، الذى وصف تصريحات «لودريان» بأنها تكشف عن رغبة باريس فى جعل موسكو كبش فداء لتبرير إخفاقاتها الداخلية، وتعنى أن الحكومة الفرنسية لا تحترم شعبها، ولم تفهم الأسباب الحقيقية لتصاعد الاحتجاجات.
الخلاصة، هى أن التحدى الأقوى الذى يواجهه ماكرون منذ توليه السلطة، لا يزال قائمًا. وأن السبت المقبل، سيكون هو خامس عطلة نهاية أسبوع تشهد اضطرابات واحتجاجات بدأت برفض زيادة الضرائب على الوقود، وتحوّلت إلى رفض واسع لسياسات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية، ثم تصاعدت لتطالب باستقالة «ماكرون» الذى اضطر، ظرفيًا، إلى السباحة فى مستنقع الدفاع عن النفس، وقد لا يستطيع الخروج منه أو من المصيدة، إلا بخروجه من الملعب، لو لم تحدث تطورات أو تسويات أو اتفاقات مع المحركين الفعليين للأحداث!.