رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القاهرة المقهورة بغياب المُحاسبة


أنا المصري



ما أجمل ما كان عليه وجه المحروسة منذ عشرينيات القرن التاسع عشر؛ ذلك الوجه الصبوح؛ الذي كان يغتسل كل يوم من بعض ذرات غبار تتناثر عليه؛ فما تلبث أن تزول تحت طبقات المياه التي كانت تعيده رائع الجمال؛ لأنه كان هناك بلديات؛ تملك إمكانيات بسيطة؛ لكنها مفعمة بإرادة العمل والرغبة في بقاء وجه العاصمة وضاءً؛ حتى ناقشت في جمالها؛ عواصم أوروبا؛ إن لم تتفوق عليها.. والآن؛ ملايين تُنفق لإحياء القاهرة الخديوية التى جاءت صورة لما كانت عليه أوروبا، فيما قبل خمسينيات القرن الماضى، جمالًا ورونقًا ونظافة، وحضارة سكنت نفوس البشر وعكستها سلوكياتهم، قبل أن تحتفظ بملامحها مبانٍ، قاومت قهر الإنسان لتفاصيلها، ومحاولته تشويهها، حتى أصبحت، بعد زمن، أثرًا بعد عين، بعد أن طغت عليها، ما سمّاه أصحابها «مدنية»، وهى فى الحقيقة ردة إلى الوراء، غام معها الوجه الرائع للقاهرة، كانت تغتسل فى اليوم غير مرة، ويتلمس مواطنوها نظافة فى نفوسهم قبل سلوكهم، حملتها لنا مشاهد أفلام، نقف حيالها مشدوهين، متسائلين: أين ذهب هذا الجمال، وكيف اختفى هذا الرونق؟!
وجه القاهرة القبيح يصنعه أهلها.. يشوهونه، صباح مساء، وفى علانية، يغفل عنها مسئولو الأحياء، لا يتحركون دفاعًا عن هذا الوجه، إهمالًا أو تواطؤًا، الله أعلم.. لا يقومون بمحاسبة من يتجرأ على تلطيخ جدران مبانيها وأسوار كباريها بإعلاناتهم، رغم وضوح أسمائهم، وبيان عناوينهم، بل حتى أرقام تليفوناتهم المُتضمنة بهذه الإعلانات.. ولأن السلوك الردىء ينتشر بالعدوى، فإن نفرًا يبدأون بصناعة هذا التشويه، يقودون غيرهم إلى تقليدهم، لأن أحدًا لم يتحرك بالمواجهة ولا المساءلة، وتطبيق القانون على من يتجرأ على الممتلكات العامة والخاصة، لأن القانون غائب عن التطبيق، والتهاون فى إنفاذه يدفع إلى التجرؤ عليه والاستهانة به.. والضحية، فى النهاية، هو هذا البلد الذى يصبح وجهه، بمرور الأيام، أكثر قبحًا مما كان عليه.
كلما سرت فى شوارع القاهرة الكبرى تصدم عينيك إعلانات ورقية، لُصِقت إلى جدران البيوت والمحال، وحتى المساجد والكنائس، وأخرى رُسِمت بألوان البويات، على مساحات كبيرة من مطالع الكبارى ومنازلها، ترسم أشكالًا نشازًا على جداريات الأسوار، تعلن عن شركات وسلع ومراكز للغات وثانية للرياضات، وثالثة عن الدروس الخصوصية، عن قاهر الرياضيات، وأستاذ الفلسفة، وفيلسوف المنطق، وجهبذ اللغة، ومبدع التاريخ الذى لم يقرأ من التاريخ سطرًا.. معلمون يعلنون عن أماكن دروسهم الخصوصية، فى ربوع القاهرة الكبرى، وأخرى عن سماسرة الأراضى والعقارات.. وحتى عربات المترو، لم تسلم من الأذى، بملصقات وكتابات على جدران عرباته الداخلية، عن وظائف وعقارات وغيرها.. كل ذلك تحت سمع وبصر مسئولى الأحياء، الذين لم يبادروا، مرة، بمحاسبة أى من قام بالتشويه، لإجباره على إصلاح ما أفسده، على نفقته، وفرض غرامة مالية يدفعها، جراء ما أقدم عليه، إذا لم يكن فى القانون بنود أخرى تردع عن تكرار الأخطاء والتجاوز فى حق المواطن، وتمنع الآخرين من التقليد.. وذلك أمر يدفع للريبة، ويحرض على السؤال عن هذا الصمت الرهيب وسكوت المحليات وتهاون مسئوليها فى مواجهة هذه الظاهرة التى باتت تشوه الوجه الحضارى للبلاد، بل معاقبة من قام به، وهى ريبة تدفع للتفكير فيما يمكن أن يكون من اتفاق على هذا الجرم فى حق العاصمة الكبرى.
المشكلة، يا سادة، لم تعد فى سن القوانين، فلدينا منها ما يملأ مجلدات، لكن الطامة الكبرى هى آليات تطبيق هذه القوانين، وفى من ينتصر لهذا التطبيق، وإنزال العقاب على من تجاوز فى حق البلد، وأساء الأدب.. وتبقى الكارثة فى أن هذا التهاون يُفقد الإنسان إيمانه بجدوى القانون وقوة سطوته لانتظام حركة المجتمع، ويدفع كل من كان ساكنًا إلى التحرك فى نفس الاتجاه من الخطأ.. ليس فى هذا الذى ذكرناه وحسب، بل فى كل مناحى الحياة.. وقد أشرت، من قبل، إلى وقائع كثيرة، غاب عنها تطبيق القانون، وأسهم تهاون المحليات أو التواطؤ معها، فى استفحالها وانتشارها، كذلك الذى حدث من السطو على أراضٍ كثيرة فى مدينة الجيزة، وإقامة منشآت عليها، تدر على من سرقها أموالًا طائلة، والمحافظة ومحلياتها غائبة عن ممارسة دورها فى الضبط والمعاقبة، رغم كثرة ما أشرنا إليه، حتى إننا فقدنا الإيمان بأن هناك من يقرأ، وأصابنا الإحباط، لغياب من يحاسب.. فهل تستمر المأساة دون مواجهة؟!
لقد مر حين من الزمن، قلنا فيه إن الدولة غائبة، وليس هناك من يحاسب، والناس تجرأت على الخطأ، ولم تعد تبالى بسوء العقاب، لأنه ليس هناك من عقاب، فالقبضة رخوة، والقانون معطلٌ، والناس منشغلون بالهم الذى أصاب بلدهم، يرجون لها السلامة من المهالك.. كان هذا فيما مضى من أيام.. فما عذرنا اليوم، وقد استردت الدولة عافيتها، واشتد عودها، وقويت قبضتها، وصار القانون على رءوس الناس، كبيرهم قبل صغيرهم؟!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.