رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضاة لن ينساهم التاريخ



فى هذه الأيام، بل من قبلها بزمن، يتعرض القضاء المصرى لحملة ممنهجة تبتغى المساس بتاريخه ومبادئه وهدم رموزه، وحينما قتلوا النائب العام، الشهيد هشام بركات، كانوا يظنون أنهم سيخيفون رجال النيابة العامة، فتتخاذل عن القيام بدورها، ولكنها ظلت ولا تزال تقوم بدورها الوطنى والقانونى، وكأنه لا يوجد أى خطر يتهددها.
حاولوا اغتيال المستشار زكريا عبدالعزيز عثمان، وقت أن كان يتقلد موقع النائب العام المساعد، فخاب فعلهم ونجاه الله، وحاولوا نفس الأمر مع المستشار تامر الفرجانى، وقت أن كان يتقلد موقع المحامى العام الأول لنيابات أمن الدولة، فأفشل الله عملهم، ثم استداروا إلى عدد من شباب النيابة العامة فاغتالوا ثلاثة منهم فى العريش، فكتب التاريخ أن النيابة العامة قدمت فى معركة مصر ضد الإرهاب عددًا من الشهداء سُجلت أسماؤهم فى التاريخ بحروف نورانية، وعندما أراد النائب العام أن ينقل أحد رجال النيابة العامة بالعريش، من الذين يتعرضون لخطر، إلى نيابة أخرى فى القاهرة رفض وكيل النيابة هذا، وقال إنه ليس أقل قدرًا ولا قيمة من أولئك الذين استشهدوا، وإنه يريد أن يستمر فى العريش متمنيًا أن ينال الشهادة، هذا هو وكيل النائب العام «محمد عماد الدين عبدالعزيز»، وأفتخر أن والده من خيرة أصدقائى ومن خيرة رجال مصر.
ولا يمكن أن ننسى أبدًا أن المستشار الجليل معتز خفاجى، رئيس محكمة جنايات القاهرة، الذى تعرض لمحاولة اغتيال آثمة دبرتها ضده تلك الجماعة الإرهابية التى لا تحيا إلا بالدماء، ولكن الله حفظه من سوء ما دبروا، ولا يزال الرجل فى موقعه يقدم لمصر نموذجًا وطنيًا وقانونيًا فريدًا، أما الاغتيال المعنوى فقد مارسوه ضد كل قضاة مصر، فلم يسلم منهم المستشار العالم الجليل محمد شيرين فهمى خيرى، الذى كشف من خلال المحاكمات التى حاكم بها جماعات الإرهاب عمالتهم وإجرامهم وإرهابهم، ومن يعرف المستشار شيرين فهمى خيرى عن قرب يدرك أنه لا يدير المحاكمات القضائية بالعِلم القانونى فقط، ولكنه صاحب فراسة وحكمة وقوة بصيرة، بحيث يندر أن نجد مثيلًا له فى تفانيه ووطنيته وإخلاصه، هذا المستشار الجليل يتعرض فى هذه الأيام لتشويه من لجان الإخوان الإلكترونية، يستهدف النيل من قيمته وعدله وعلمه، ولا أخالنى مغاليًا إذا قلت إن القضايا التى يتولاها تتحول إلى خنجر فى قلب جماعة الإخوان الإرهابية، وبعضها يحق لنا أن نسميها محاكمات القرن، ولكى نعرف لماذا يدبر الإخوان تلك المعارك مع القضاء يجب أن نعود للوراء قليلًا.
فقبل الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ كانت هناك مقدمات انتبه لها من انتبه وغفل عنها من غفل، وكان من تلك المقدمات تلك الحملة المستعرة التى تعرض لها القضاء المصرى عبر سنوات طوال وبطريقة منتظمة، فأخذت الاتهامات تُكال للقضاء بأنه كان «قضاء يتبع الحاكم» ويخضع لرغباته ويساعده على مظالمه! ومع طبقات وطوائف سياسية بعينها انتشرت هذه الفرية، وكم كانت هذه الاتهامات ظالمة، خاصة أن بعضها صدر من ذوى القربى من رجال القانون، والحقيقة أن القضاء ورجاله لم يأبهوا لهذه الفرية، ولم يتوقفوا عندها لأنهم وهم يمارسون وظيفتهم الرسالية كانوا يبحثون فقط عن تطبيق القانون وإقرار العدل، لا إرضاء هؤلاء أو هؤلاء، لذلك وفى ظل نظام حكم السادات، أو مبارك، أصدر القضاء أحكامًا لصالح قوى سياسية معارضة، وكان أشهر هذه الأحكام الحكم الذى أصدرته إحدى دوائر محكمة جنايات القاهرة ببراءة المتهمين فى أحداث السابع والثامن عشر من يناير، وها هى أحكام المحكمة الدستورية العليا التى قضت بعدم دستورية قانون الانتخابات البرلمانية التى أجريت على أساسه انتخابات ١٩٨٤، ومن بعده عدم دستورية القانون الذى أجريت على أساسه انتخابات ١٩٨٧، وفى كلتا الحالتين اضطرت السلطة التنفيذية للامتثال لأحكام القضاء وقامت بحل البرلمان، وإلى الآن ما زالت أحكام المحكمة الدستورية تصدر بعدم دستورية قوانين وتشريعات كثيرة أصدرتها السلطة التشريعية فى البلاد، حتى إننا نحتاج إلى عدَّاد يحصى لنا عشرات المبادئ التى أصدرتها تلك المحكمة والتى لا يجوز العدول عنها، والتى تضمنت الانتصار لحريات المواطنين وحقهم فى التعبير وحقوقهم العقائدية والسياسية بكل صورها، وها هى محكمة النقض المصرية بتاريخها العبقرى الذى لا يمكن أن يتكرر فى أى منظومة قضائية، ها هى تصدر عشرات الأحكام ببطلان الانتخابات البرلمانية لبعض رموز سياسية لم يكن أحد يفكر حتى فى الاقتراب منهم، هذا غير المبادئ والحقوق التى أقرتها على مختلف الأصعدة، أما المحاكم الابتدائية ومحاكم الجنايات فقد أصدرت على مدار عشرات السنوات قرارات نهائية بالإفراج عن المتهمين المحبوسين احتياطيًا فى القضايا التى أخذت صبغة سياسية، سواء كانوا من اليسار أو الإخوان أو الجماعات الإسلامية، بل إن قاعات محاكم أمن الدولة العليا فى ظل قانون الطوارئ، وفى زمن حسنى مبارك تشهد على آلاف من القرارات التى أصدرتها هذه المحاكم بقبول تظلمات المعتقلين سياسيًا من كل الجماعات التى أطلقت على نفسها مُسمى الجماعات الجهادية.
وفى ظل حملة تشويه القضاء المصرى والنيابة العامة أغفل أصحاب الغرض تلك القرارات غير المسبوقة التى أصدرتها نيابة أمن الدولة العليا فى منتصف الثمانينيات بإحالة عدد من ضباط وزارة الداخلية للمحاكم الجنائية بتهم تعذيب المتهمين، وأظن أن كثيرًا من الشباب الذى نسب لنفسه ثورة يناير، لا يعلمون أن دائرة أمن الدولة العليا برئاسة المستشار الجليل عبدالغفار محمد، عليه رحمة الله، قامت بإصدار أحكام لا تدانيها أحكام فى عدالتها، بإحالة الضباط الذين استجوبوا المتهمين إلى النيابة للتحقيق معهم فى جرائم التعذيب التى ارتكبوها ضد المتهمين، وحققت نيابة أمن الدولة العليا بالفعل فى وقائع التعذيب، وحرصت على إعطاء التحقيق حقه، فجمعت تقارير الطب الشرعى الذى أثبت وقائع التعذيب، ثم أصدرت قرارها بإحالة كل الضباط المتهمين لمحكمة الجنايات.
وحدِّث بلا فخر عن مئات الأحكام التى أصدرتها المحاكم المدنية بكل أنواعها ودرجاتها التى انتصرت فيها لحقوق المواطنين بجميع توجهاتهم السياسية، رغم أن هذه الأحكام كانت لا ترضى بطبيعة الحال السلطة الحاكمة، أما محكمة النقض «دُرة القضاء المصرى» فإن أحكامها كانت عنوانًا للحقيقة، لا تبحث فيها إلا عن القانون، ولا تجتهد فيها إلا لتغليب مصلحة المجتمع، وحين يكون التفسير الظاهر والراجح للقانون لا يحقق هذه المصلحة، فإن محكمة النقض كانت تأخذ بالتأويل المرجوح وتغليبه على الراجح، طالما أن فى المرجوح مصلحة جمعية لعموم الناس لا خصوصهم، ولو أخذنا على سبيل الحصر الأحكام التى أصدرها القضاء المصرى وانتصر فيها للعدالة والحريات والقيم الإنسانية لاحتجنا إلى مجلدات، ولكننا لسنا فى مجال الحصر بل إننا قد لا نستطيعه، فإن تعدوا أحكام القضاء المصرى العادلة لا تحصوها.
هذا ما جهله الكثير وما عرفه الأكثر، ولكنهم تجاهلوه لحاجة فى نفوسهم قضى الله ألا يقضوها، ولكن معركة تشويه القضاء اتسع مداها، فأخذ التشويه ينشب مخالبه فى هيئات قضائية بعينها، وفى قضاة بأعينهم، وزادت ضراوة تلك المعركة فى زمن حكم الإخوان، وقد كان هذا الهجوم كاشفًا عن رغبة استعرت فى نفوس قادة جماعة الإخوان فى تخويف قضاة مصر، فإن تم ما يريدون فليكن تحويل المؤسسة العدلية الكبرى فى مصر إلى مؤسسة خاصة ناطقة بلسان الإخوان ومحققة لمصالحهم، فكانت تصريحات قادة الإخوان عصام العريان والبلتاجى ومحمد بديع وغيرهم، وكلها كانت تستهدف تثوير الجماهير ضد القضاء، فتم بناء على هذه التصريحات الانفلات الأمنى وأحداث الشغب وإحراق «مجمع المحاكم» الشهير بشارع الجلاء وعدة محاكم أخرى، وجرت أعمال اقتحام لعشرات المحاكم مثل دار القضاء العالى ومحكمة مدينة نصر.
وأصبح معروفًا لكل صاحب نظر أن الإخوان كانوا يريدون من القضاء ان يكون قضاءً تابعًا لهم، والقضاء يتأبى على التبعية، فإن استعصى القضاء على السيطرة فليكن هدم القضاء بأكمله، وليكن تشويه رموزه، ولكنهم لم ينجحوا ولن ينجحوا أبدًا.