جريمة فى المنزل.. كيف نصنع أطفالًا مشوهين بـ«التربية السلطوية»؟
«التربية السلطوية» هى التربية التى تقوم على تحديد المسارات لا إعطاء الخيارات، وعلى التلقين وحشر المعلومات، وتعتمد على أسلوب الترهيب والقهر والتخويف، سواء للطفل فى البيت أو الطالب فى المدرسة، لذا فهى لا تستحق لقب تربية من الأساس. التربية الحقيقية تعنى إطلاق ملكات الإنسان وقدراته فى مسارات بناءة لإصلاح حياته وحياة غيره، وعمران الأرض، ونشر الحق والخير والعدل والجمال فى هذه الأرض، باستلهام تعاليم السماء.
ولأن التربية السلطوية عكس ذلك تمامًا، فهى تخنق حرية الأطفال والمراهقين وتحطم ملكاتهم وقدراتهم، وتسعى فقط إلى تنميطهم بالشكل الذى يرضى الآباء أو المدرسين، أو أولى الأمر أيًا كان موقعهم.
تؤسس لاعتبار الصغار «أغبياء».. وتنتج شخصيات خاضغة أو متمردة أو بـ«وشين»
التربية السلطوية هى تربية الرأى الواحد للأب أو الأم فى البيت، وللمدرس أو المدرسة أو مدير المدرسة، وهى تربية كتاب المدرسة الموحد والمقرر الثابت والفصل الثابت والامتحان الثابت، التى لا تعطى للفروق الفردية بين الأبناء أو الطلاب أى أهمية أو اعتبار.
هى تلك التربية التى تعلى من قيمة الطاعة والانقياد والتسليم والخضوع، بينما تحجر حرية التفكير وملكات حل المشكلات والإبداع والتجديد والتطوير، وهى التربية أحادية الاتجاه التى تسمح فقط للأب أو المدرس أن يتكلم، ولا تسمح للابن أو الطالب إلا بالاستماع.
هى التربية التى تفترض أن الكبار فقط هم أصحاب العلم وأصحاب الخبرة وأصحاب الرأى وأصحاب العقول، وأن الصغار جهلاء وسذج وأغبياء ولا يعرفون مصلحتهم وتقوم على العنف اللفظى أو البدنى، وعلى العسف والتسلط والاضطهاد، والكبت الفكرى وتعطيل طاقات النمو.
إن ذلك النوع من التربية نشأ واستوطن فى البيئة العربية بوجه خاص وتشكل مع الثقافة التى تقوم على أسس قبلية وعشائرية وطائفية، إذ كانت مغذية للسلوك الاستبدادى على المستويين الفردى والجماعى لمئات السنين فى المجتمعات العربية.
ومن حيث التأثير على النشء ينتج عن التربية السلطوية ٣ أنواع من الشخصيات، هى: العبد والمتمرد والمراوغ ذو الوجهين.
أول نوع من الشخصيات الناتجة عن التربية السلطوية هو شخصية «العبد»، وتعنى أن يسلم الطفل أو المراهق إرادته تمامًا للمربين، ويصبح سلبيًا ومعتمدًا بالكامل عليهم لا يعارضهم ولا يناقشهم، ويتحلى بأخلاق العبيد فى تعامله مع أى كبير، فيخضع ويخنع له ويسلم له مقاليده ويمتدحه ويشعر بالراحة والطمأنينة فى حماه، مهما ناله من أذى. وهذا الشخص تكون لديه صفات ماسوشية يستعذب معها الأذى والألم، بل ربما يتوحد مع المربى (المعتدى) فيصبح هو الآخر متحكمًا وقاهرًا لمن هم دونه، وخاضعًا لمن هم فوقه.
وفى هذه الحالة يفتقد الشخص العقل النقدى، فلا يفرق بين الحرية والاستعباد، ولا يفرق بين الحق والباطل، بل يخضع فقط لمن يتحكم به ويقوده، وهو دائمًا يحتاج لمن يتحكم به ويقوده لأنه لم يتعود أن يعيش مستقلًا، بل ربما يشعر بالرعب إذا وجد نفسه مسئولًا عن نفسه ومتحررًا من التبعية، لذا يسعى جاهدًا للبحث عمن يتحكم فيه.
النوع الثانى من الشخصيات وهو «المتمرد»، ويعنى أن يتمرد الطفل أو المراهق على مربيه، فيصبح جانحًا جامحًا يكسر القواعد ويحطم الضوابط ويخرج على الأعراف والتقاليد رغبة فى الانتقام أو إثبات الذات، وهو يفعل ذلك بقدر ما يتمتع به من قدرة فى مراحل عمره المختلفة.
أما النوع الثالث فهو «المراوغ»، الذى يصبح فيه الطفل أو المراهق ذا وجهين أو عدة وجوه، فهو أمام المربى وتحت وطأته طائع مستسلم ذليل، أما حين يخلو لنفسه فهو يفعل كل ما يرغبه ويشتهيه.
مواجهتها تكون باتباع الأساليب الحديثة والتدرب على الحرية منذ الطفولة
هناك كتابان غاية فى الأهمية يسلطان الضوء على ظاهرة التربية السلطوية فى المجتمعات العربية وآثارها فى القديم والحديث، أولهما هو كتاب الدكتور يزيد عيسى الذى يحمل عنوان «السلطوية فى التربية العربية»، وهو من إصدار «عالم المعرفة» عام ٢٠٠٩، وثانيهما كتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور» للدكتور مصطفى حجازى الصادر عن المركز الثقافى العربى عام ٢٠٠٥.
الكتاب الأول يشرح ظاهرة التعليم السلطوى والتربية السلطوية فى المدارس العربية ونتائج ذلك على الشخصية العربية وعلى مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فى العالم العربى، بينما يشرح الكتاب الثانى التركيبة النفسية للإنسان الناتج عن بيئة القهر بوجه عام، وكيف تكون تركيبته النفسية وتفاعلاته مع الناس ومع الأحداث.
وهذان الكتابان هما من أهم الكتب التى سلطت الضوء على مرض مزمن فى البيئة والثقافة العربية، وحللا العوامل التى جعلته عصيًا على التحول الديمقراطى الذى ذهب إليه أغلب سكان الأرض ومنحهم الاستقرار الحقيقى والنماء والازدهار والسلام المجتمعى، وحرية الفكر والتعبير، وتنامى ملكات حل المشكلات، والإبداع فى كل مجالات الحياة.
فمثلًا يقول يزيد عيسى فى كتابه: «التربیة التى تقوم على العنف والتعسـف والقهـر والتسـلط ومصـادرة الحریـة، أقصـر الطرق لتحطیم الفـرد وتدمیر المجتمـع، وقـد أشـار تقریـر التنمیـة العربیة الرابع إلى أن التربیــة العربیـة تخنق حریة الطالـب والمعلـم معًـا».
ويضيف: «التربیـة فـى الـوطن العربى تعانى أمـراضًا مستعصـیة تتمثـل فـى مشـكلات كثیـرة، وتحـدیات كبیرة، وأزمات حقیقیـة تعیق مسیرتها، وتقـف حجر عثرة أمام تحقیقهــا أهـدافها».
ويتابع: «تعـد الســلطویة مـن أهـم تلـك الأمــراض التـى یعـانى منهـا الجسـم التربوى العربى المثخن بالجراح، لأن معظـم المشكلات والتحدیات والأزمـات التربویـة العربیة لیست إلا من أعـراض ذلك المرض أو مـن نتائجه».
ويشرح: «السلطویة نقـیض رئیسى وعـدو لدود للتربیة، فالتربـية تسـعى لتفجیـر طاقات الفرد، بینما یعمل القهـر على قتلها، وتهدف التربیة إلى بناء شخصـیة الإنسان بشكل شامل ومتكامل ومتوازن، فى حـین أن الاضطهاد یوجد شخصیة ضـعیفة ومشـوهة ومضـطربة، وغیر متوازنة».
ويختتم: «تضع التربیة نصب الأعـین إعـداد الفـرد المفكـر والمبـدع والمتفـوق، أما الاستبداد فيؤدى إلى تقویض مهارات الإنسان وشل قدراته وتعطیل طاقاته والحد من إبداعه، ولذلك فإن الوعى بالسلطویة فى المیدان التربوى خطوة مهمة نحو التخلص منها وتحریر الفرد والمجتمع».
إذن ما الحل؟
الحل يحتاج إلى أن نعود إلى مبادئ التربية الحديثة فى بيوتنا ومدارسنا، منها تدريب الطفل أن يعلم نفسه (التعلم وليس التعليم)، وتدريبه على أن يحل أغلب مشكلاته، وتحرير شخصيته من قبضة الكبار، وتنمية روح الإبداع لديه.
وهنا يجب احترام قدراته وملكاته وتقدير ذاته، وإعطاؤه الفرصة لاتخاذ قرارات كثيرة فى حياته، كما يجب إعطاؤه الفرصة للتجربة وتحمل الخطأ، وأن نعطيه الفرصة للاختيار بين بدائل متعددة، ونسأله رأيه ونحترم اجتهاداته ونعطيه فرصة لإدارة مصروفه.
بعض المربين يعتقدون أن هذه الأفكار ربما تكون مقبولة، لكن حين يكبر الطفل ويعرف ما يفيده وما يضره، لذا يؤخرون كل هذه المبادئ إلى سن العشرين، لكن حينئذ يكون الوقت قد فات، نظرًا لأننا نحتاج تطبيق هذه المبادئ التربوية منذ السنة الثانية من العمر، ففيها تكون أولى مراحل استقلال إرادة الإنسان.