رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر.. بيت إفريقيا الكبير


أن تملك المفاتيح، فقد سلكت الطريق الأكيد لفتح الأبواب المغلقة، والباب هو أول خطوة نحو الساحات الرحبة خلفه، وكلما عرفت تفاصيل المكان وخريطة الولوج إليه، فقد اختصرت الزمن ووفرت الجهد للوصول إلى هدفك.. وفي الأمم، يكون الشباب هم مفتاح الولوج إلى مجتمعاتهم، وبقدر احتوائنا لهم والتأثير فيهم، بقدر ما نكون قد أصبنا وجهة الوصول في أممهم.. تلك حقيقة عرفها الأتقياء والطُلحاء، أدركها المُصلحون والمُفسدون، وكلٌ سعى إلى هدفه، بغية إحداث تأثيرة الذي يبتغيه في الأمة التي يترصدها، إصلاحًا أو إفسادًا.. وعادة ما تكون مهمة المُصلح أكثر صعوبة من سعي المُفسد، لأن الشر سهل وحلو المذاق، رغم عواقبه الوخيمة، بينما الخير صعب، رغم نبل مقاصده وحلاوة جزائه.. وقلة من المصلحين، هم الذين أدركوا أن قلب الأمة في عقول شبابها، فبادروا إليها، وراحوا يخطبون أفكارها ويستقطبون خطواتها.

وتبدو القارة الإفريقية، لكل العالم، منجمًا ثريًا، ليس بثرواتها الطبيعية الوفيرة، ولا بمساحات دولها المتعددة وأرضها الخصيبة ومياهها المتدفقة من أنهارها وبحيراتها، ولا من حيث هي سوق واعدة، كما هي مصدر مهم للمواد الخام في المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولكن لأنها تملك قوة بشرية لا يُستهان بها، وعقولًا يمكن استغلالها فيما يعود بالخير على القارة، وعلى من فكر في التوجه إليها، استغلالًا لخيراتها، ولأن هؤلاء الشباب هم قوة الدفع أو الرفض في أية علاقة.. ويبدو الأمر لمصر أكثر أهمية من غيرها، لأن إفريقيا هي قارة الانتماء والاحتواء، وهي الامتداد الجغرافي والتواصل الاجتماعي، والتوسع الطبيعي إذا ما فكرنا في أن نكون بلدًا منتجًا أو وسيطًا في صناعات، ثم تأتي بعض دولها، شريكًا حيويًا في دول حوض النيل، وما أُثير حوله من إشكاليات في الفترة الماضية.. ولذلك، أبدت مصر اهتمامًا خاصًا بالقارة وساكنيها منذ القدم، فيما عدا سنوات عجاف في عمر علاقتها بالقارة، وقد عبر هذا الاهتمام عن نفسه في مظاهر عدها، لعلها أهمها بالنسبة لي، استقبال مصر للبعثات التعليمية من القارة، التي كانت تتكفل القاهرة بإقامة وتكاليف دراسة طلابها، وكثيرًا ممن شغلوا مقاعد القيادة في بلادهم، في أزمان سابقة، كانوا يدينون بالفضل لمصر، في تعليمهم ورعايتهم، وقت أن كانوا شبابًا، وكان ذلك العصر الذهبي، للعلاقات المصرية الإفريقية، حيث كانت القاهرة، هي مهبط قلوبهم، ومحط رحالهم، حتى في علاقاتهم الدولية بالغير.

وبعين الخبير، الذي يُدرك مكامن الخير لبلاده فيستخرجه، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال كلمته في جلسة «كيف نبنى قادة المستقبل»، ضمن فعاليات اليوم الثالث بمنتدى شباب العام الذي انعقد خلال الإسبوع الماضي فى شرم الشيخ، بوضع إنشاء مدينة لشباب إفريقيا فى مصر ضمن توصيات المنتدى، ليس فقط لإتاحة الفرصة للشباب الإفريقى المشاركة فى المؤتمرات الدولية التى تنعقد بمصر، ولكن أيضا لتتلقى وتستقبل الأبناء من شباب القارة على مدار العام، موضحًا أن الهدف من إنشاء هذه المدينة فى مصر، هو الحديث مع شباب القارة الإفريقية وتأهيلهم.. وأنا أرى أن ذلك يتسق مع مسلك الرئيس تجاه القارة، وفكرته هي عين الصواب، لأن من ملك العقول، هيمن على السلوك.

فمنذ أن تولى الرئيس مقاليد الحكم في مصر، ولى وجهه شطر إفريقيا، جنبًا إلى جنب مع بقية دول العالم، إيمانًا منه بأن إفريقيا هي الامتداد الطبيعي لمصر، وعلى قدر ارتباط القاهرة بها والتأثير في محيطها الجغرافي، تستمد القاهرة قوتها في علاقاتها بالعالم الخارجي، ومن يتابع دعوة الصين وروسيا، ومؤخرًا ألمانيا، لمصر للمشاركة في اجتمعات تخص هذه الدول الثلاث، ويرتبط جانب منها بإفريقيا، سيدرك أن قادة هذه الدول الثلاث يعرفون أنه لن يكون لهم التأثير المطلوب في إفريقيا، إلا إذا ارتبطت علاقاتهم بالعمق الإفريقي، بعلاقة أخرى موازية مع مصر، خاصة وأن القاهرة ستتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي مطلع العام المقبل، وهو الدور المُرحب به من دول القارة، لأنهم باتوا يعرفون قدر مصر في العالم الخارجي، وأن القاهرة تسعى حثيثًا لتحسين الأوضاع المعيشية لأبناء القارة، ولا تألوا جهدًا في إشاعة السلام بين ربوع الدول المُتنازع أبناؤها على غنيمة المصالح السياسية فيها، وارتباط بعضهم بأحلاف خارجية، قد تضر بمستقبل هذه الدولة أو تلك، وربما بمستقبل القارة، إذا شاعت فيها الحروب وكثُرت الانقسامات.

هذا يدعونا لنُذكر بمؤتمر الصين ـ إفريقيا.. فلدى مصر والصين اهتمامًا متزايدًا فى تقوية العلاقات الثنائية، بعد الزيارة الخامسة التى قام بها الرئيس السيسي لبكين، والتي بدأت في ديسمبر 2014، واستمرت كل عام، حتى كانت الرابعة فى سبتمبر من العام الماضي، وقد ركزت الزيارات السابقة على التعاون والدعم المتبادل فى عدة مشروعات، منها "إحياء طريق الحرير" والاستثمار الصينى فى منطقة محور قناة السويس الجديدة، كذلك زادت استثمارات شركة هواوى فى مصر بشكل ملحوظ.. وجاءت الزيارة الأخيرة قبل عدة أشهر، بالتزامن مع المنتدى الرسمى للتعاون بين الصين وكل دول إفريقيا، باستثناء سوازيلاند التى لا تملك علاقات مع بكين، وهو المنتدى الذي يُعقد كل ثلاث سنوات.. وقد زاد الاهتمام العالمى بالمنتدى الثالث فى جوهانسبرج عام 2015، كما تبين فى تغطية وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية للقمة، وبالعلاقات الصينية الإفريقية تحديدًا، كما نشرت تقارير تتحدث، بشكل سلبى، عن الصين ونفوذها الاقتصادى، ونشرت مجلة "التايم" تقريرًا عن مخاطر التواجد الصينى فى إفريقيا على المصالح القومية الأمريكية، بعد أن زاد حجم الاستثمارات الصينية هناك، فى السنوات الأخيرة، من خمسة مليارات دولار فى 2006 إلى 60 مليار دولار فى 2015.. وحظيت مبادرة "الحزام والطريق" باهتمام الصين، وجاء التركيز على الصناعات الإفريقية، في المرتبة الثانية.

بالنسبة لمبادرة الحزام والطريق، تسعى الصين إلى الاستثمار فى البنية التحتية بإفريقيا، وتحديدًا فى الساحل الشرقى للقارة، والذى يعد «الجزء البحري» من طريق الحرير، سيجرى التعاون في هذه الاستثمارات من جانب بكين مع مصر وكينيا وجيبوتى، مع توقعات بتوسع المحادثات لتشمل إثيوبيا وتنزانيا أيضًا، ويخص مصر من هذا الطريق الجزء المتعلق بقناة السويس.. أما ما يخص الصناعات الأفريقية، فإن المواقع الرسمية التابعة لحكومات رواندا وكينيا، كانت نشرت أخبارًا فى 2015 تتحدث عن التعاون الصينى من أجل تطوير الصناعات الإفريقية مثل مبادرة «إستراتيجية الأربعة الكبار الكينية»، ومبادرة «الإستراتيجية الوطنية للتحول» فى رواندا، حيث تعهد الرئيس الصينى وقتها، ببناء وتطوير مناطق صناعية وتقديم الدعم المالى من خلال قروض عبر صندوق «الصين ـ إفريقيا للتعاون الصناعى».

خلاصة ما أود الوصول إليه، هو أن مصر تمتلك فرصًا واعدة في اجتياح القارة السوداء، عبر شراكاتها مع أطراف عالمية، وعلى رأسها الصين، حيث تكون القاهرة ورشة العمل الصينية في المنطقة، التي تمد الدول الإفريقية بمنتجاتها في منطقة قناة السويس، وصومعة الغلال الرئيسية، ومنطقة الترانزيت الكبيرة، للتجارة بين العالم والقارة.. وفي تلك الأحوال، ما أحوج مصر لعقول وسواعد شبابها، ومعهم، وكتفًا بكتف، الشباب الإفريقي.. لأن ذلك هو المنطق الطبيعي، للتأثير والتأثر، وكسب عقل وقلب القارة التي ما زال هواها مصريًا.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.