رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهضة الوطن بين الفعل «الفاضح» والفعل «الفاضل»




هكذا أنا، بالفطرة، أنفر من شىء اخترعه البشر، اسمه «القوانين». وأكره جميع أنواع «القوانين» دون استثناء.. وإننى مقتنعة، بأنه كلما كثرت، وتعددت القوانين، بحيث شملت كل حياتنا، ومنذ أن نفتح عيوننا فى الصباح، وحتى يهدنا اليوم فى المساء، كثر وتعدد الفساد، والظلم، والجريمة، والانحرافات.
أستعير مقولة الفيلسوف الجميل.. الرشيق، عاشق الرياضة والسباحة والعدالة بين النساء والرجال، مؤسس المدينة الفاضلة، «أفلاطون»: ٤٢٧ -٣٤٧ قبل الميلاد- «كلما ازداد عدد القوانين التى نسنها، ازداد إغراء الناس للخروج عليها».
هذا تفسير أفلاطون. أما تفسيرى أنا، فيرى أن المجتمعات التى تدرك شدة فسادها، وحدة الظلم بها، وفوضى تناقضاتها الأخلاقية، وافتقارها الحد الأدنى الذى يمنع الناس من ارتكاب الجرائم بأنواعها، تعوض هذا الخلل، بكثرة القوانين، وبطش العقوبات وقسوة الجزاء. تماما مثل الأب الفاسد، الذى يريد إخفاء فساده بإرهاب الزوجة والأطفال.
كما أننى على قناعة راسخة، تدعمها تأملاتى وقراءاتى للتاريخ القديم والحديث، أن البشر الذين يسنون القوانين، ويشرعون العقوبات القاسية، ضمانا للعدل، فى أغلب الحالات، يكونون هم الذين تسببوا فى إحداث هذا الظلم، بدرجات وأشكال مختلفة.
فهم «يمزقون» الثوب، ثم يسنون القوانين، لردع منْ يحاول «ترقيع» الثوب.. يقولون: «هذه هى القوانين التى تحتاجها العدالة، لكى تأخذ مجراها». و«العدالة» فى حقيقة الأمر، لا تأخذ مجراها هى. ولكنها تأخذ مجرى هؤلاء المستفيدين، من وجود ظالم ومظلوم.. جانٍ، وضحية.. قاض ومتهم.
العدالة ليست فى كتب القانون، ومناهج كليات الحقوق، وفتاوى الفقهاء، لكنها فى عقول، وقلوب، ونفوس وسلوكيات الناس. العدالة، أن تتوفر «البيئة العادلة»، التى تمنع أصلا، دوافع ارتكاب أى جريمة.. من المفردات اللغوية الشهيرة، لبوليس الآداب، مقولة «فعل فاضح فى الطريق العام»، والتى تقبض على رجل وامرأة، يجلسان فى حالة من الحب الرومانسى، يحلمان على ضوء القمر، بحلم الارتباط، وتكوين أسرة.. يفاجأ الشاب والفتاة، بأنهما بين أيدى بوليس الآداب، متهمين بارتكاب «فعل فاضح فى الطريق العام».
أتساءل: هل «الفعل الفاضح فى الطريق العام»، وعلنا، وعلى الملأ، أفضل من «الفعل الفاضح فى البيت الخاص»، سرا، وبعيدا عن الأعين؟. أتساءل هل كلمة «الفاضح»، تشير إلى الفعل نفسه، أم إلى المكان الحادث فيه الفعل؟.. بمعنى هل التقاء المحبين، فى شقة مفروشة، هو فعل «فاضح»؟. هل «الفضيحة»، فى الفعل، أم فى المكان؟.
هل قبلة العشاق، فى الطريق العام، «فعل فاضح»؟، وهل إذا حدثت القبلات «دكاكينى» فى البيوت المغلقة، وتحت السلالم المهجورة، المعتمة، لا تكون لدينا مشكلة؟. بمعنى آخر، لو حدثت القبلة، فى بيت مغلق، تكون فعلا «فاضلا»؟. لكن هناك تناقضا. فالفعل الذى يحدث، أمام الناس، لا يكون «فاضحا». فالفضيحة، لغويا، واجتماعيا، وأخلاقيا، تشير إلى أشياء «مخفية»، «مستترة» عن الأعين، ثم تعرضت للكشف.
هل عوادم السيارات، التى تسبب السرطانات، فعل فاضح أم فعل فاضل؟. هل الضوضاء المستمرة، ليل نهار، وزعيق الميكروفونات، فعل فاضح، أم فعل فاضل؟. أكوام القمامة التى أصبحت من معالم الوطن.. انهيار البيوت على سكانها.. وسائل المواصلات الشعبية المكتظة بالناس.. الطوابير الطويلة امام المستشفيات المجانية، الخالية من الحد الأدنى من أدوات الإسعاف.. تسول الأطفال المعدمين، أو تشغيلهم لبيع المناديل أو الورد أو اللبان المستورد.. نواح الفقر المدقع.. تغطية الفتيات والنساء.. كتب التطرف الدينى على الأرصفة.. المنتجعات التى تعلن عن مقدم بسيط، لا يتعدى ١٠٠ ألف جنيه.
فتاوى شيوخ السلفية، التى تقتحم غرف النوم، وتنط علينا من النوافذ حتى المغلقة.. ماء النيل الملوث.. الإعلام الذى يتبنى التضليل واللهو بعقولنا.. الأسرة الأبوية.. قصور الثقافة الخالية من الثقافة.. الغِناء لكل منْ هب ودب.. استغاثات المعاقين.. تدهور الفنون.. الشتائم البذيئة على خشبة المسارح.. الكذب فى حياتنا الخاصة والعامة.. تصادم القطارات من حين لآخر.. أليست هذه الأشياء، كلها، تنتمى إلى «فعل فاضح فى الطريق العام؟». أم أنها تدخل فى قائمة «فعل فاضل فى الطريق العام؟». هناك بالتأكيد خلل فى الأولويات التى نطلق عليها «فضائح»، ويجب أن نعدله، ونصلحه. هذا إذا كنا نريد حقا، وطنا قويا، لا يخشى أن ينقد نفسه بنفسه. وطنًا يتوقف بعض الوقت، لتفعيل و«أنسنة» القوانين الكثيرة، التى تحبسها الأدراج. بدلا من وضع أخرى جديدة، تصبح مثل أخواتها، حبرًا على ورق.