رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدراما التليفزيونية.. القوة الناعمة الضائعة


استفزتنى أحداث كثيرة، فى مناسبات عديدة، وعبر وسائط متعددة، تدفعنى كلها دفعًا، إلى أن أعود فأكتب عن إشكالية الدراما المصرية فى الفترة الأخيرة، وما آل إليه مصيرها، من التأثير والريادة إلى الترهل والتبعية.. إلى أن قرأت ما كتبه زميلى الصحفى، الأستاذ عزت البنا، عن مناشدته رئيس الجمهورية، ومطالبته بالتدخل لدفع مسيرة الإنتاج الدرامى، وإعادته إلى سيرته الأولى، بعد اتفاق أمر القائمين عليها، وهم منتجو القطاع الخاص، على تحديد كم ما سيتم إنتاجه، خلال هذا العام، باثنى عشر مسلسلًا فقط، وسيؤدى تفعيل قرارهم إلى قصر عدد من سيعملون فى التخصصات المختلفة للإنتاج الدرامى، من مخرجين ومؤلفين وعمال إضاءة وصوت ومونتاج ومكساج وغيرهم، ممن يحتويهم هذا المجال الرحب، إلى خمسمائة فرد على الأكثر.
وبالتالى سيؤدى الوضع الجديد إلى إغلاق العديد من البيوت، تخص كل من كان يعتبر موسم الإنتاج الدرامى السنوى بابًا لأرزاقهم، يعتمدون عليه طوال العام، لحين قدوم الموسم الذى يليه.. وما لم يقله عزت أن هؤلاء العاطلين بالضرورة سينضمون إلى طابور طويل، خرج من إعادة هيكلة القنوات الفضائية مؤخرًا، وأصبح أفراده بلا عمل أو وظيفة تحتويهم، بعد أن مُنيت هذه القنوات بخسارة، قدّرها هشام سليمان، مدير قنوات DMC، بنحو مليارين وثلاثة أرباع المليار جنيه، بعد أن أنفقت خلال العام المُنصرم ستة مليارات جنيه، ولم تحقق عوائد مباشرة وغير مباشرة، أكثر من ثلاثة مليارات وربع المليار جنيه!.
وهكذا، كان لزميلى وصديقى عزت البنا، فضل دفعى للولوج مرة أخرى فى هذا الموضوع الشائك، الذى سبق أن تناولناه، وقلنا فيه كلمات، يبدو أن أحدًا لم يلتفت إليها أو يعرها أدنى اهتمام.. لكن الأهم فى هذا الموضوع يتجاوز ما ذهب إليه عزت، من تعطل الكثير من العاملين فى الإنتاج الدرامى، وفقدانهم مصدر دخلهم السنوى، إذ يتجاوز ذلك إلى أزمة الدراما المصرية، التى سيطر عليها القطاع الخاص، بعد أن خرجت قطاعات الإنتاج العامة الثلاثة من دائرة الدراما، وهى مدينة الإنتاج الإعلامى، التى كانوا يسمونها «هوليوود الشرق»، التى تحولت إلى دكاكين تؤجرها القنوات الفضائية، وشركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، التى لم يعد لها نشاط يُذكر، وقطاع الإنتاج التابع للهيئة الوطنية للإعلام.
وجميعها كانت تقف وراء إنتاج ما يزيد على خمسين مسلسلًا كل عام، تزخر بها الشاشات العربية قبل المصرية، حققت بها مصر ريادتها فى هذا المجال، وأحدثت، عبر سنوات طوال، تأثيرها فى متلقيها، بالقاهرة وكل العواصم العربية، باعتبار أن الدراما من أهم قوى مصر الناعمة، وأكثرها تأثيرًا وفاعلية.. ولندرك ذلك، دعونا نُذكر بما ذهبت إليه تركيا قبل سنوات عدة، عندما أطلقت شبكة فضائياتها المسماة TRT، تُريد بها اختراق المجتمعات العربية، لنشر فكر الدولة التى بيتت النية على الاستحواذ على العقل العربى، قبل أى إشارة لأحلام الخلافة الأردوغانية، ظنًا منها أن ذلك يمهد الطريق أمام العقول العربية لتلقى الأفكار الواردة، عبر برامج تلك الفضائية.. وسرعان ما تفتق الذهن العثمانلى، عن أن الدراما التركية، الناطقة باللهجة الشامية العربية، أسرع انتشارًا وأقوى تأثيرًا فى تغيير السلوك وهيكلة الأخلاقيات لدى الشباب العربى، بتقديمها نموذجًا منفتحًا حتى النخاع، يتكئ على ثقافة مختلفة وغريبة على مجتمعاتنا، وكانت فى نفس الوقت، رسولًا داعيًا إلى السياحة فى المدن التركية، وما تلا ذلك من تدفقات عربية غير مسبوقة، للتعرف على المجتمع الذى تتحدث عنه تلك الدراما.. وأظن أنه لا يوجد إنسان واحد يُنكر أن هذه الدراما التركية قد أوجدت تأثيرها بين قطاعات عربية كبيرة، ومن بينها مصر.
ومنذ أيامه الأولى فى حكم البلاد، كان الرئيس عبدالفتاح السيسى يُدرك تأثير الدراما، وأثرها فى الأخلاق، وترسيخ الهوية المصرية وشيوع ثقافتنا الوطنية، وزرع معانى الولاء والانتماء فى شخص المتلقى، وطلب إلى عدد من المنتجين والفنانين، تبنى مشروع درامى مصرى رائد، ووعد بأن تقف الدولة وراءه لدعمه والدفع به نحو الخروج إلى النور.. فما فعلوا، وما حولوا رؤية الرئيس إلى واقع، بل انخرط كل إلى ما يهمه، ويعود عليه بالنفع المباشر.. وهنا دعونى أُذكر من نسى أو تناسى، أن قطاعات الإنتاج العامة الثلاثة، هى التى صنعت مجد كثيرين من المنتجين الموجودين على الساحة، يوم أن أقرت العمل بنظام «المُنتج المُنفذ»، ومن بعده «المُنتج المُشارك»، اللذين أتخما جيوبهما بالمال، وتوسعت شركاتهما، وعندما توقفت قطاعات الإنتاج عن العمل، لأسباب عديدة أهمها نقص التمويل، والعمل بعقلية القطاع العام، إنتاجًا وتسويقًا، وما أدى إليه ذلك من خسارات أكلت رؤوس الأموال التى كانت تُستغل فى الإنتاج، ومن بعدها منافسة القطاع الخاص فى الإنتاج المباشر، وما سببه من ارتفاع أجور الإنتاج وكل عناصره الضرورية.. بعد كل ذلك، تسيّد القطاع الخاص الساحة، وسيطر على منافذ التوزيع فى التليفزيونات العربية، يعاونهم فى ذلك، أقطاب المهنة فى قطاعات الإنتاج العامة، من منطلق «مصلحتى أولى».
أدت هذه السيادة المتفردة لشركات الإنتاج الخاص على منظومة الدراما فى مصر، إلى فرض أفكارها وهيمنة أذواقها على ما تنتجه من مسلسلات، وراحت تتوسل بكل وسيلة تدفع بها نحو المكسب، حتى ولو بإهالة التراب على القيم الاجتماعية والمنظومة الأخلاقية، والتأثير السلبى فى السلوك الإنسانى، والنيل من ثوابت المجتمع وقيمه المُتعارف عليها، بل الحط من عاداته وتقاليده.. وبعد أن كانت الدراما وعاءً للتاريخ، وحافظة للقيم والثوابت المجتمعية، وحاضنة الفضيلة وحسن الخُلق، باتت مُعلمًا مخلصًا للبلطجة والانحراف عن كل المألوف.. ولم يتحرك أحد!.
يقولون إن الدولة لم تعد قادرة على الإنتاج، بالقدر الذى بلغت به تكاليف مسلسل واحد الآن، وأن خزائن قطاعاتها الخاوية لم تعد تقدر على دفع مرتبات العاملين فيها.. وهو أمر مردود عليه بأن عدد العاملين فى هذه القطاعات انحسر إلى ما يُقارب النصف، بفضل خروج العديد منهم إلى المعاش، وذلك وفر فى بند الأجور، والأهم من ذلك أن قطاعات الإنتاج تمتلك أدوات هذه الصناعة، التى ربما لا يمتلكها غيرها، والعمالة تتقاضى أجرها، عملت أم لم تعمل، فلماذا لا نعيد الحياة لدراما قطاعات الإنتاج، بمن يستغل إمكانياتها، ويكون قادرًا على تشغيلها؟.. لأن فى ذلك عودة للشخصية المصرية، وعافية للمجتمع المريض فى طباعه، من خلال دراما سليمة وصحيحة، تُعيد للمجتمع قيمه، وتقدم النماذج المصرية البراقة، وتعكس مكارم الأخلاق وروائع السلوك الإنسانى.. ألا يساوى ذلك مليارات الجنيهات، ونحن نتحدث عن كيفية بناء الشخصية المصرية؟!.
هل تعلمون أن جزءًا كبيرًا من سطوة الولايات المتحدة على العالم، صناعة فنية، صنعتها السينما والدراما التليفزيونية، قدمت من خلالها الشخصية الإيجابية للمجتمع الأمريكى، واصطفت إلى جوار القوة العسكرية، لتصنعا معًا فى نفوس العالم، فكرة «السوبرمان» الأمريكى، مع أننا نمتلك أساطين من العلماء، ورجالًا أفذاذًا حققوا المجد لبلادهم، وأبطالًا صنعوا النصر لمصرهم، ومنهم الشهيد إبراهيم الرفاعى، دون أن تعرف الأجيال الحالية من هؤلاء؟، وماذا قدموا لبلدهم؟، والشباب فى أمسّ الحاجة إلى القدوة، التى ربما رآها فيمن أذاق العدو الصهيونى الويل، خلال حرب الاستنزاف، وهو البطل إبراهيم الرفاعى ورفاقه.
ألا يستحق كل ذلك أن تستعيد الدراما مجدها، وأن يتولاها من يفهم أمرها؟.. فبها، مع غيرها، نعيد بناء الشخصية المصرية، ونقدم من خلالها رموزًا للشباب، يقتدون بهم، ونحيى بها أمجادهم، حتى لا ننساها كاملة مع الأيام.. فالدراما، فى رأيى، هى ذاكرة الأمة.. لو كنتم تعلمون.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.