رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تسييس الفن




خلط الدين بالسياسة والسياسة بالفن أضر بالوطن وبمنظومة قيمه وضميره الجمعي ضررًا بالغًا فخلط الدين بالسياسة.. قد أضر بالدين وأضر بالسياسة تمامًا كمن لعب بالبيضة والحجر فكسرت البيضة ولوث الحجر فالبيضة خلية أولية شديدة النقاء شأنها شأن العقائد والأديان والحجر قاس كالسياسة التي وصفها صلاح جاهين بأنها “مهلكة بشكل عام “ فماذا يحدث اذن عندما نلعب بالبيضة والحجر ؟ حتمًا حيكسر الحجر تلك البيضة النقية وسيلوث الحجر وهذا ما جنيناه من إقحامنا للدين في شئون السياسة والحكم حتى ظهرت.. تقليعة جديدة مؤخرًا لا تقل في خطورتها وتأثيراتها السلبية عن خلط الدين بالسياسة وهي.. تسييس المهرجانات السينمائية وتسييس الفن في العموم لخدمة توجهات أو تكتلات بعينها وخدمة مآرب قاصديها.
و أحيانا.. تحميل الفنان أو عمله الفني ما لا يحتمل لتوجيه الرأي العام في اتجاه ما ضد هذا العمل أو ضد هذا الفنان بدعاوى ثورية حنجورية يتصدر لها دومًا ملاك الحقيقية المطلقة.. المحتكرين للثورة والمتحدثين الرسميين باسمها !!..حدث ذلك التجاوز وطرح ذلك الفكر العليل وحدث خلط كبير في المعايير أحدث نوع من التشظي والفوضى الفكرية ودفعت أسماء -يندر الزمان أن بجود بمثلهم - أثمان باهظة وشوه تاريخ هؤلاء ونعتوا بأقذر الألفاظ.. بسبب المزايدات المجانية من أناس مارسوا شتى أنواع الترهيب بل والبلطجة ضد هؤلاء.. ولم يسلموا من مقتهم وانتقامهم المجاني إلا من رحمهم ربي فقد هوجم "احمد فؤاد نجم " بضراوة من مبتسرين وأنصاف بسبب موقفه من ٣٠ يونيو.. وانه رقص مع شعبه على أنغام أغنية " تسلم الأيادي ".. وسبت المناضلة "شاهندة مقلد" رحمة الله عليها بسبب موقفها ووقوفها مع الدولة المصرية ضد عباد العتمة.
و أهين الأبنودي صاحب " عدى النهار " و" إحنا ولا د الكلب الشعب " بسبب مواقف مشابهة حتى الروائي الاستثنائي "صنع الله إبراهيم " فهوجم بسبب موقفه من ٣٠ يونيو وأخيرًا وليس آخرًا.. ولنترك القوس مفتوحًا لتضاف أسماء أخرى روعت وشوهت بفعل المزايدات والمزايدون.. وأقصد بذلك الأخير الفنان " محمد منير " ملك الأغنية الإنسانية الذي فتح قلبه على الشارع وعلى المساكن الشعبية وقاطنيها وقدم شكاويه لحاكم الخرطوم وأجلت جلسته.. ومازالت مؤجلة ليوم الدين !! لماذا تكبد " ملك الأغنية الوطنية والنوبية " محمد منير ما تكبد ؟؟!!.
لقد تكبد ما تكبد لأنه غنى ومازال يغني.. فتلك هي مهنته وهذه هي حرفته " الغناء" وصوته يسمع من قلبه.. ورغم كل تاريخه مع الغناء وجراح الوطن والإنسان هوجم ملك النوبة وخونه البعض لأنه غنى لمؤتمر الشباب !! بل وزايد عليه المزايدون وحملوه وزر فشل ثورة يناير التي أفشلتها الشللية الثورية وأطماع وانتهازية من احتكرها واحتكر الحديث باسمها لان محمد منير لم ينزل للميدان ولم يجلس مع هؤلاء على المقاهي ليشاركهم هريهم وثرثراتهم او ليسليهم ويزجي لهم وقتهم المهدر.. فلا صنيعة بالفعل لبعض هؤلاء الجالسين سوى الجلوس وتمضية والوقت ع المقاهي متحينين منتهزين لفرصة قد تظهر لهم هنا أو هناك ليتربحوا من ورائها.. و" محمد منير " كان مطالبًا بان يجلس معهم على المقاهي لتنجح الثورة !! هكذا يرى مدعو الثورية الأمر.. ويعلقون دومًا فشلهم وإفشالهم للثورة على شماعة بل وعلى رقاب فنانين أنتجوا فنًا خالصًا سيظل في ضمير ووجدان تلك الأمة إلى أبد الآبدين قد يتعجب من يقرأ عامودي هذا الأسبوع.
و يتساءل عما أريد توصيله والحديث عنه ولماذا الآن وما السبب وراء التذكير بتلك المواقف.. والإجابة تتلخص في حالة اللغط والجدل الذي أثير حول الفيلم المصري " عيار ناري " والذي لا أراه فيلمًا عظيمًا ولكن وفي نفس الوقت لا يمكن أيضا توصيفه بأنه من أفلام المقاولات التي عفا عليها الزمن وليس أيضا فيلمًا كوميديًا مسفًا أو فجًا من تلك الأفلام التي يجر إليها المشاهد عادة في مواسم الأعياد.. هو مجرد عمل نسج حكاية ما من وحي الواقع.. صاغها المؤلف وطرحها مخرج العمل بإمكانياته المتاحة.. هذا ببساطة ما حدث.. وللعلم يشبه الفيلم في فحواه ورسالته بل وتكنيكه فيلم " تراب الماس " فكلاهما ينتمي لسينما التشويق والغموض والإثارة والجريمة وتحقيقات البوليس شأنهما شأن غالبية الأفلام الجماهيرية التي تجذب الشباب اليوم إليها بمحاكاتها لتكنيك السينما الأمريكية الأكثر شعبية في العالم فحركة الكاميرا السريعة والكادرات التي صارت مألوفة للعين المدربة على مشاهدة تلك النوعية من الأعمال لنفاجأ بجدل يثار حول هذا العمل السينمائي العادي والبسيط وغير المسف -و هو العمل الأول لمخرجه " كريم الشناوي " ومؤلفه الشاب " هيثم دبور " - وبل معارك نقدية واختلاق للقضايا وسجال واتهامات للفيلم وصلت لحد الخيانة العظمى لدم الشهداء وللثورة المصرية ومحاولات النيل منها وصار صناع الفيلم أعداءً للثورة والوطن وعملاء لوزارة الداخلية !!
و أتعجب كثيرًا من كل هذا الجدل..و تحميل العمل البسيط ما لا يحتمل.. علمًا بان كل ما حدث سيصب حتمًا لصالح الفيلم في النهاية !! إذ سيحقق ذلك العمل أعلى إيرادات لا لأنه من أفضل إنتاجات العام بل لأنه الأكثر جدلًا !! وهكذا يسهم المشهرون بفيلم ما في جعله فيلمًا شهيرًا سيتهافت على مشاهدته المتهافتون فيزيد اللغط وتستمر وتشتعل حالة التشظي وتصبح المحصلة هي صفر للجميع صفر في كل شيء وكنت أود أن اسمع نقدًا علميًا أو موضوعيا بشأن الحبكة الدرامية او تكنيك المخرج مثلا أو أداء " روبي " الباهت جدا وتفوق " محمد ممدوح " -غول التمثيل القادم حتمًا بخطىً ثابتة راسخة جعلته يتفوق بأدائه الفذ المعتاد على بطل العمل " احمد الفيشاوي" - ولكننا دومًا عباقرة بل وليس في مقدور احد أن يجارينا في اختلاقنا للقضايا واصطناع وتأجيج الصراعات بمجانية - باهظة التكاليف - من اجل اللاشيء !! وكأننا نكره أنفسنا ونكره الغير ونريد تدمير فن السينما والفن عمومًا وإحباط صناعه من الشباب ليعزف عنهم الممولين وتنهار صناعة السينما وتتراجع ولا تتقدم ويصب ذلك كله في النهاية لصالح الظلاميين الذي سيسعدون حتمًا بإخراس صوت هنا أو إغلاق باب أو نافذة هناك ومن ثم القضاء على أي بارقة أمل أو نور قد يلوح في أي أفق محتمل تحميل الفيلم ما لا يحتمل من اتهامات شيء جدا خطير وشيء أيضا مقيت يضر حتما أكثر مما ينفع.
و كي لا أتسبب في أي حيرة للقارئ الذي لم يرى الفيلم -حتى الآن - سأحاول إيجاز قصة الفيلم في هذه المساحة الصغيرة رغم أنني ممن يفضلون مشاهدة ما يمكن مشاهدته.. فنحن نتحدث عن ما لا يمكننا مشاهدته كي يراه الآخرون.. لكن إذا رأى الأخر بعينية ما يمكنه رؤيته فلا حديث.. الفيلم باختصار يتحدث عن مقتل شاب قيل انه من شهداء الثورة لنكتشف في نهاية الفيلم انه كان شابًا يمارس البلطجة في منطقته وعلى أمه وعلى الحي الذي يقطن فيه.. وقتل في مشادة مع أخيه بطريق الخطأ ولكي يفلت القاتل من العقاب تواطأ الجميع وجعلوا المقتول من شهداء الثورة هذه هي ببساطة حدوتة الفيلم والمستوحاة من قصص كثيرة مشابهة حدثت وسمع بها أو عايشها بعضنا فقد التقينا جميعا خلال الثورة بمختلف وشتى أنماط وأنواع البشر في الشوارع والميادين.. منهم من كان صادقًا صالحًا ومنهم كان الطالح.. منهم من كان ثوريًا مخلصًا ومنهم من كان بلطجيًا.. والخ
و حتى في حادثة حريق بني سويف المأساوية زج بعض المواطنين بأسمائهم فيها !! بوصفهم من مصابي المحرقة !! ثم كشفت التحريات عن كذب بعضهم وانأ لا أدين هؤلاء الضحايا الذين يريدون علاج ما هنا أو مساعدة ما هناك..فيكذبون وينتحلون وضعية غير وضعيتهم الحقيقية فهم ضحايا بالفعل.. هم ضحايا في كل الأحوال.. مجرد ضحايا تحايلوا على أوضاعهم البائسة بيأس أكيد وأرى أن يكون التعامل معهم بروح القانون.. فالإنسانية تعلو دومًا على أية قوانين أو بيروقراطية وهذا ما طرحه الفيلم ببساطة.. فعلام إذن يزايد المزايدون ؟!
فمن يريد أن يتشدق ويزعق قائلا " واثوراه " له ما يريد ولكني أتمنى أن يكف هؤلاء ألسنتهم وأياديهم عن شباب المبدعين ويفسحون لهم المجال ليبدعوا وينسجوا الحكايات من يريد أن يجلس على عرش الثورة التي هزمها هو بنفسه قبل أن يجور عليه أحد فليتفضل ومن يريد أن يجلس على المقهى متحدثًا بل ومحتكرًا للحقيقة المطلقة فليجلس سيتجاوز الزمان والمكان حتما كل هؤلاء بل وسيتجاوز الجميع وسيستمر شريان الإبداع في التدفق تارة بعمل جيد الصنع وتارة بعمل يحتاج إلى المزيد من الجهد وتارة أخرى بعمل فذ يفاجئنا ويحدث لنا نوع من الإفاقة أو يجعلنا نعيش ونشعر من خلاله بمتعة بصرية أو بطرح فكري جديد أو مغاير.
الإبداع سيستمر بشتى أنواعه وعلى اختلاف درجات جودته.. لكن أن يعرقل في العموم أو يخرس أو يمنع.. فتلك هي الجريمة الكبرى التي لن يسمح بها بعد ثورتين - أو بعبارة أدق - بعد ثورة مصرية عظيمة بدأت في الخامس والعشرين من يناير وصححت مسارها بإزاحة الإسلام السياسي من المشهد العام في ٣٠ يونيو..و نعيش الآن ثورة في مجال التشييد والتنمية ومحاولات إصلاح المنظومة الاقتصادية.. نخفق أحيانا ونوفق أحيانا ولكننا نسير للأمام حتمًا وستصحح النهايات البدايات فالمستقبل يعرف تماما كيف يعتني بنفسه ولكل امرئ اليوم شأن يعنيه ولا شأن له بشئون الغير ولن يكون قاضيًا أو جلادًا أو حكمًا غير عدل وستسير الأمور في أعنتها شاء من شاء وأبى من أبى.