رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مى زيادة بين قلم الروج وقلم الكتابة


منذ أن تعرفت عليها، أدركت مدى التشابه بينى وبينها.. لعنة الكتابة، مصادقة الوحدة، العشق المحال، اتهامات بأنها لحن «نشاز»، يفسد سيمفونية الكون.. واتهامات بالجنون، تعكر صفو العقلاء.
إنها الأديبة شامخة الكلمة، متفردة التناقضات، عصية القلب، مى زيادة، التى توافق ذكرى رحيلها الـ٧٧، يوم ١٧ أكتوبر القادم. تسقط دائما مى، عند ذكرى ميلادها فى ١١ فبراير ١٨٨٦، وحتى عند الرحيل، رغم أنها زهرة من زهرات الأدب العربى، وزهو النساء العربيات.
أين تذهب مى زيادة فى عالم تشغله أخبار عاشقات رؤساء الدول، وأخبار طلاق ممثلة درجة عاشرة، وأخبار السعال لمطربة يخلو غناؤها من الغِناء؟. أين تذهب أديبة رائعة، وسط زفاف أولاد، وبنات، منْ نعتبرهم الناس الذوات؟. كيف نتذكرها، وهى التى عاشت وماتت دون فضيحة واحدة، مع حاكم أو رئيس أو لاعب كرة، ولم تتزوج وتطلق عشرات المرات جذبًا للشهرة، ولم نعثر لها على صورة واحدة وهى تقف ملوية الجسد، أو مكشوفة الصدر، أو وهى تطعم كلبًا من كلابها التى تقوم بتربيتها فى وقت الفراغ.. أو وهى تتفسح مع صديق نفطى الثروة على أحد اليخوت؟.
أين تذهب مى زيادة، وقد كان شغلها الشاغل هو بناء صرح من الكلمات، وليس بناء فندق سياحى، أو شاليه فى الساحل الشمالى، أو سوبر ماركت متعدد الطوابق، أو بناء قائمة من العشاق المهرولين، أو مركز للتجميل والتدليك، أو محل لتصميم أزياء النساء اللائى يدفعن آلاف الجنيهات، من أجل الفساتين، والإكسسوارات؟.
لأن تكون مى زيادة، امرأة مفكرة وشاعرة وأديبة وثائرة، فهذا فى حد ذاته أمر لا يفهمه الرجال، وإذا فهموه يرجمونه بكل الإدانات. وإذا أضيف إلى هذا أن مى زيادة، لم تكن فى حماية رجل له نفوذ رسمى، سواء بالمعرفة أو الزواج، فإن التاريخ الرسمى يلفظها، أو لنقل إنه لا ينصفها، ولا يسلط الضوء الكافى على إنجازاتها وكتاباتها.
قد يحتفى المجتمع الذكورى، بالمرأة التى تكتب عن كيفية المحافظة على الرموش، ونعومة البشرة، وراحة الزوج، ولمعان الأثاث، وانطفاء الكرامة.
أما المرأة التى تكتب عن الظلم الاجتماعى، والتفرقة بين البشر، وضرورة إعادة صياغة العالم، بالعدل والخير والحرية. وتجعل قلمها مرادفا للمعارك، والسباحة ضد التيار، وفضح التناقضات الاجتماعية، والأخلاقية، فإنها كاتبة «شيطانية»، «متطرفة»، «متطاولة» على الثوابت والموروثات، «محرضة» للفتنة، «شاذة» الطبيعة. وبالتالى، لا بد من عقابها، بالتهميش، والتعتيم الإعلامى، وبث الشائعات حولها.
مى زيادة، من هذا النوع الذى يهز القناعات المقدسة للأفراد، ويدعو دون «دحلبة»، أو مواربة. كان لـ«مى» صالونها الثقافى والفنى كل ثلاثاء. استطاعت بموهبتها، وثقافتها، وأخلاقها المستقيمة، وعشقها للمباريات الفكرية، أن تلف حولها فى هذا الصالون ألمع الشخصيات فى عصرها، سواء فى مجال الفن أو العلم.
أدركت مى بحسها الفطرى، أنها محبوبة، ومرغوبة، ليس فقط لتفكيرها الجرىء، وكتاباتها المميزة. ولكن أيضا كامرأة. أدركت مى، أنها لو استسلمت للحب، أو الزواج، فعليها أن تضحى برسالتها الأدبية والفكرية. هم رجال أدباء وشعراء ومفكرون ومتفلسفون. ولكن هناك جزءا بداخل كل منهم. لو امتلكها بالعاطفة، أو بالزواج، فسوف يظهر على حقيقته، ويعاملها معاملة الذكر الأعلى للأنثى الأدنى. إن هذا المصير الذى اختارته مى أكبر دليل على موهبتها النابغة، المختلفة تماما، عن طموحات النساء، كاتبات، أو عاديات.
إن رسائل الصداقة، والعواطف المختلفة، التى كانت جسرا للتواصل بينها وبين جبران خليل جبران، ٦ يناير ١٨٨٣ – ١٠ أبريل ١٩٣١، كانت كافية جدا، تمنحها المتعة الفكرية دون التملك الذكورى، لجسدها، ولعقلها. يجعلها تشعر بما كانت تتمناه.. انتشاء الروح الهائمة الغريبة المحلقة الحرة. وليس انتشاء الجسد المحبوس، المكبل بغرائزه العابرة الموروثة.
وكان جبران الوحيد المؤهل لتلك المهمة الغريبة، المغامرة، الخطيرة. فهو مثلها «لا منتمى»، «غريب»، «محلق»، يقدس الحرية. هو الآخر، بمواهبه المتعددة، يبحث عن امرأة مختلفة وحيدة، وهو الآخر مثلها.
كم امرأة فى العالم، تكتفى بهذا، لتهب حياتها، وشبابها لمتعة الكتابة، وسحر عناق القلم؟. كم أدبية فى العالم، تُفضل نداء الكتابة، على نداء رجل؟. كم أدبية فى العالم تُفضل عناق الصفحة البيضاء، على عناق حبيب؟. كم أدبية فى العالم، تغفو مطمئنة النفس، سعيدة الجسد، مشبعة الأحاسيس، وهى بين أحضان قصة، أو قصيدة، وليس بين أحضان حبيب، أو زوج؟. مى زيادة ١١ فبراير ١٨٨٦ – ١٩ أكتوبر ١٩٤١.. لم تمسك بـ«قلم الروج»، وإنما بـ«قلم الكتابة».