رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار لا مجادلة


الحوار لغويًا هو ديالوج، أى التكلم وتبادل الأفكار، وهو أداة الفكر والتفاعل اللفظى بين اثنين أو أكثر من البشر، بهدف التواصل الإنسانى، وتبادل الخبرات والأفكار، وتكاملها فى أسلوب بعيد عن التعصب، ولا يُقصد به الخصومة، فهو فى هذا يختلف عن الجدل الذى فيه منازعة وقوة وخصومة، كما يختلف عن المناظرة التى تقوم على المواجهة والتضاد والتصحيح والإبطال.
الحوار بحق قيمة إنسانية عظمى لا يكاد يختلف حولها اثنان من سكان عالمنا، مشرقه ومغربه، وشماله وجنوبه، وهو يبدأ بالبيت والمدرسة والمجتمع، والحوار الراقى لا غنى عنه من أجل التعايش مع الآخر بل من أجل ما هو أروع وهو العيش المشترك الذى يقوم على الوحدة الإنسانية وجودًا ومصيرًا، فيحب المرء لغيره ما يحبه لنفسه، ويؤمن بضرورة وجوده معه وإلى جانبه، يدخل معه فى حوار منفتح، يتبادل وإياه الفكر، يسمعه جيدًا، يأخذ منه ويعطيه، ويعرف كيف يختلف معه فى الرأى دون أن يخسره، فيكون الاختلاف مصدرًا لثراء حياتهما معًا، وللفهم الأعمق لمنطق الحياة، بل لمعرفة الآخر معرفة أوثق بكل مكوناته، والاعتراف به وبخياراته، ليصير الحوار موضوعيًا ومتكافئًا، ذلك أن الحوار المتجانس الذى يسعى إلى كشف الأمور المشتركة هو الضمانة الحق للعيش المشترك.
والحوار الراقى هو الذى يخلو من أى نبرة تنفير أو تعيير أو تحقير، وهو الذى لا تشوبه جدلية التعصب، ولا صخب النقاش الحاد، الذى قد ينطوى على عدوانية مرفوضة رفضًا باتًا. ومما لا شك فيه أن الإصلاح الدينى الذى قاده مارتن لوثر فى ٣١ أكتوبر عام ١٥١٧ فى فيترمبرج فى المانيا لعب دورًا كبيرًا فى كسر جمود وحدة الرأى الواحد الذى لا يجب مناقشته، وفتح آفاقًا جديدة للحوار العقلانى، والاعتراف بوجود الأطراف المختلفة، والأفكار المتباينة هى التى نقلت الإنسان من عصر البداوة إلى عصر الصناعة ثم إلى عصر ما بعد الصناعة أى حضارة الألفية الثالثة، وأن من أهم ثمارها حب التعددية بشتى مظاهرها بصفتها من أهم وأجمل حقائق الحياة مع ما تنطوى عليه من غيرية وسماحية ثقافية ودينية، وترسيخ الإيمان بعالمية العلم والمعرفة، ونبذ التعصب وبذوره، ومن أهم أقطاب صُناع هذه الحضارة: فرانسيس بيكون فى إنجلترا، وديكارت فى فرنسا، وفولتير وجان جاك روسو وجون لوك، وغيرهم من قادة التنوير.
وهنا لا يجب أن نغفل الدور الهام الذى قام به ابن رشد الفيلسوف المسلم فى نقل وترجمة فكر أرسطو إلى أوروبا، مما أسهم فى التنوير الأوروبى لقد دعا ابن رشد إلى إعمال العقل، حيث قال إذا تعارض النص مع العقل فلا بد من تأويل النص ليتفق مع العقل. إن العدو الحقيقى لنا جميعًا هو: غياب ثقافة الحوار الذى يأخذ فى الاعتبار نسبية الحقيقة، وأنها ليست حكرًا على أحد، والإيمان بتعدد الرؤى، والاقتناع بحق الاختلاف، وبحق الآخر فى قبوله كما هو، وأن الحقيقة المطلقة الوحيدة التى يمكن أن يُجمع عليها جميع البشر هى غير موجودة باستثناء الموت.