رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم الدين



هو‭ ‬يوم‭ ‬الفصل‭.. ‬يوم‭ ‬الإنصاف‭ ‬والعدل‭.. ‬يوم‭ ‬ستتساوى‭ ‬فيه‭ ‬الرءوس‭.. ‬وسيجتمع‭ ‬كل‭ ‬الخلائق‭ ‬مع‭ ‬خالقهم،‭ ‬ليُحاسب‭ ‬ويُجازى‭ ‬الجميع‭ ‬خيرًا‭ ‬أوشرًا،‭ ‬كلٌ‭ ‬حسب‭ ‬عمله‭. ‬

وكلنا‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬المرتقبة‭.. ‬كلنا‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭. ‬

كلنا‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬المخرج‭ ‬والنهاية‭.. ‬كلنا‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬الخلاص‭ ‬وانتظار‭ ‬المخلص‭. ‬

كلنا‭ ‬نتوق‭ ‬لأن‭ ‬نكون‭ ‬سواسية‭ ‬وأن‭ ‬نشعر‭ ‬بآدميتنا‭ ‬وأننا‭ ‬كلنا‭ ‬أبناء‭ ‬أم‭ ‬وأب‭ ‬واحد،‭ ‬وأن‭ ‬الأرض‭ ‬كانت‭ ‬لنا‭ ‬جميعًا‭ ‬والسماء‭ ‬كذلك‭.‬

كلنا‭ ‬‮«‬عم‭ ‬بشاى‮»‬‭ ‬فى‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭.. ‬كلنا‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭.. ‬كلنا‭ ‬هذا‭ ‬المنبوذ‭ ‬المجتنب‭.. ‬كلنا‭ ‬هذا‭ ‬المرفوض‭.. ‬كلنا‭ ‬هذا‭ ‬المكروه‭ ‬الذى‭ ‬يتم‭ ‬إقصاؤه‭.‬

لقد‭ ‬صرنا‭ ‬نحن‭ ‬المهمشين‭ ‬الجدد‭.. ‬لقد‭ ‬صرنا‭ ‬هكذا‭.. ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬قاسٍ‭ ‬لا‭ ‬يعير‭ ‬التفاتًا‭ ‬لأحد‭ ‬ولا‭ ‬يرأف‭ ‬بحال‭ ‬أحد‭.. ‬عالم‭ ‬يمضى‭ ‬فى‭ ‬طريقه‭ ‬على‭ ‬طريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬وبقانونه‭ ‬الخاص‭ ‬جدًا‭ ‬ويدهس‭ ‬من‭ ‬يلاقيه‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الطويل‭ ‬الوعر‭.. ‬كلنا‭ ‬صرنا‭ ‬معزولين‭.. ‬كلنا‭ ‬نعيش‭ ‬فى‭ ‬مستعمرة‭ ‬كبيرة‭.. ‬مستعمرة‭ ‬استعمرها‭ ‬النظام‭ ‬العالمى‭ ‬الجديد‭ ‬بتوحشه‭ ‬الرأسمالى‭ ‬وفقره‭ ‬الإنسانى‭. ‬

عجلات‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬والتغريب‭ ‬تدهس‭ ‬الجميع‭ ‬وتكسر‭ ‬ظهور‭ ‬الكل‭.. ‬فكلٌ‭ ‬فى‭ ‬مجاله‭ ‬قد‭ ‬عزل‭ ‬واغترب‭. ‬

كلنا‭ ‬صرنا‭ ‬اليوم‭ ‬كمريض‭ ‬‮«‬الجُزام‮»‬‭ ‬فى‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬،‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬نموذجًا‭ ‬طرح‭ ‬وقدم‭ ‬ككبش‭ ‬فداء‭ ‬وضحية‭ ‬لمجتمع‭ ‬بيروقراطى‭ ‬مترهل‭ ‬قاسٍ‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬لا‭ ‬يكترث‭ ‬لأحوال‭ ‬العباد،‭ ‬فصار‭ ‬الجميع‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عم‭ ‬بشاى‮»‬،‭ ‬وصار‭ ‬الجميع‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬الخلاص،‭ ‬وفى‭ ‬انتظار‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭.‬

يتساوى‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬مريض‭ ‬الجزام‭ ‬المعزول‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المعزولين‭ ‬وهم‭ ‬كثير‭. ‬

الطفل‭ ‬النوبى‭ ‬اليتيم‭ ‬فى‭ ‬الفيلم‭.. ‬القزم‭.. ‬مَنْ‭ ‬بُترت‭ ‬ساقه‭ ‬فى‭ ‬حادث‭ ‬فاضطر‭ ‬للتسول‭.. ‬المرأة‭ ‬التى‭ ‬نساها‭ ‬أهلها‭ ‬وتركوها‭. ‬

فكل‭ ‬إنسان‭ ‬ميزه‭ ‬الله‭ ‬وخصه‭ ‬بميزة‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الخلائق‭ ‬واختصه‭ ‬بها،‭ ‬يعاقبه‭ ‬الغير‭ ‬عليها،‭ ‬وكأنها‭ ‬جُرم‭ ‬أو‭ ‬ذنب‭.‬

فالمريض‭ ‬مذنب‭ ‬ومنبوذ،‭ ‬والنوبى‭ ‬كذلك،‭ ‬واليتيم‭ ‬والفقير‭ ‬والمسيحى‭ ‬والمرأة‭ ‬والمعاق‭.. ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬منبوذون‭ ‬مهمشون‭ ‬فى‭ ‬عالمنا‭ ‬القاسى،‭ ‬وكأن‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬مثل‭ ‬الجميع‭!.‬

قطيع‭ ‬متشابه‭ ‬‮«‬غير‭ ‬متجانس‮»‬‭ ‬ليقبل‭ ‬ذلك‭ ‬الآخر‭ ‬غيره‭.. ‬ففى‭ ‬الاختلاف‭ ‬تطاحن‭ ‬وخلاف،‭ ‬لا‭ ‬رحمة،‭ ‬المجتمع‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬المختلف‭ ‬دومًا،‭ ‬يرفضه‭.. ‬يقصيه‭.‬‭. ‬يعزله‭.. ‬يحتقره‭.. ‬يخاف‭ ‬منه‭.. ‬ويأنفه‭.. ‬ويعزف‭ ‬عنه‭ ‬ويعافه‭!.‬

وتلك‭ ‬العزلة‭ ‬القاسية‭ ‬غير‭ ‬المبررة‭ ‬وذلك‭ ‬الغبن‭ ‬الأكيد،‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬ولا‭ ‬يخص‭ ‬فقط‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجزام،‭ ‬وكأن‭ ‬الجميع‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬مستعمرة‭ ‬كبيرة‭ ‬تُشبه‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجزام‭ ‬التى‭ ‬يُقصى‭ ‬ويُسجن‭ ‬فيها‭ ‬المريض‭.. ‬مستعمرة‭ ‬تضم‭ ‬الجميع‭ ‬دون‭ ‬قبول‭ ‬أو‭ ‬رأفة‭ ‬أو‭ ‬احتضان‭. ‬عالمنا‭ ‬أصبح‭ ‬يعزلنا‭ ‬عنه‭ ‬ويعزلنا‭ ‬عن‭ ‬غيرنا،‭ ‬بل‭ ‬يعزلنا‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا‭ ‬وعن‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬وآدميتنا‭. ‬

كلنا‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬معجزة‭ ‬تخلصنا،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬زمن‭ ‬المعجزات‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬فصار‭ ‬الحلم‭ ‬والأمل‭ ‬الأوحد‭ ‬يتجسد‭ ‬فى‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬،‭ ‬حين‭ ‬يتساوى‭ ‬الجميع‭ ‬وحين‭ ‬يقف‭ ‬الجميع‭ ‬أمام‭ ‬رب‭ ‬العباد،‭ ‬لا‭ ‬فضل‭ ‬لهذا‭ ‬على‭ ‬ذاك‭ ‬إلا‭ ‬بعمله‭ ‬الطيب‭.‬

وانتظارنا‭ ‬وتطلعنا‭ ‬ليوم‭ ‬الدين‭ ‬فى‭ ‬ذاته،‭ ‬أكبر‭ ‬برهان‭ ‬على‭ ‬انعدام‭ ‬أى‭ ‬بارقة‭ ‬أمل‭ ‬قد‭ ‬تلوح‭ ‬فى‭ ‬أفق‭ ‬هنا‭ ‬أو سماء‭ ‬هناك‭. ‬

فبعد‭ ‬أن‭ ‬فقدنا‭ ‬الأمل‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬صار‭ ‬التطلع‭ ‬للسماء،‭ ‬للميتافيزيقا،‭ ‬للعدم،‭ ‬للنهاية‭.. ‬فيها‭ ‬الخلاص‭. ‬

فالبدايات‭ ‬الجديدة‭ ‬صارت‭ ‬شبه‭ ‬مستحيلة،‭ ‬وصار‭ ‬الأمل‭ ‬فى‭ ‬الموت،‭ ‬أى‭ ‬‮«‬العدم‭ ‬والفناء‮»‬‭ ‬وانتظار‭ ‬يوم‭ ‬الحساب،‭ ‬هو جل‭ ‬الأمانى‭.. ‬صار‭ ‬الأمل‭ ‬والتطلع‭ ‬فقط‭ ‬ليوم‭ ‬الدين‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬أى‭ ‬حياة‭. ‬

قدر‭ ‬قاسٍ‭ ‬وموجع‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬المخرج‭ ‬المصرى‭ ‬الشاب‭ ‬‮«‬أبوبكر‭ ‬شوقى‮»‬‭ ‬فى‭ ‬فيلمه‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭ ‬بعذوبة‭ ‬منقطعة‭ ‬النظير،‭ ‬فلعب‭ ‬بخفة‭ ‬وحيوية‭- ‬ودون‭ ‬أى‭ ‬اصطناع‭- ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬القلب‭ ‬والروح‭ ‬والبصيرة،‭ ‬فمس‭ ‬الداخل‭ ‬بلغة‭ ‬سينمائية‭ ‬بسيطة‭ ‬راقية‭ ‬وبشخوص‭ ‬حقيقية،‭ ‬وكأنه‭ ‬فيلم‭ ‬تسجيلى‭ ‬ينتمى‭ ‬لسينما‭ ‬الحقيقة‭.. ‬لا‭ ‬دراما‭ ‬صنعها‭ ‬بمهارة‭ ‬وصدق‭ ‬فوصلت‭ ‬للجميع‭. ‬

فى‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬كان‮»‬،‭ ‬وفى‭ ‬مهرجان‭ ‬‮«‬الجونة‮»‬،‭ ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬يُعرض‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬الذى‭ ‬تخطى‭ ‬بلغته‭ ‬وبساطته‭ ‬حدود‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭. ‬

فهذا‭ ‬العمل‭ ‬تجسيد‭ ‬حقيقى‭ ‬لفن‭ ‬السينما‭ ‬التى‭ ‬هى‭ ‬لغة‭ ‬إنسانية‭ ‬عالمية‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬لأن‭ ‬تفهمها‭ ‬أو‭ ‬تشعر‭ ‬بها،‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تقرأ‭ ‬ترجمة‭ ‬للعمل‭.. ‬الصورة‭ ‬حدثتنا‭ ‬فرأينا‭ ‬وشعرنا‭ ‬بكل‭ ‬شىء‭. ‬

السينما‭ ‬الحقيقية‭ ‬الصادقة‭ ‬هى‭ ‬بالفعل‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬تتخطى‭ ‬وتتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬لذلك‭ ‬استقبل‭ ‬الفيلم‭ ‬بحفاوة‭ ‬فى‭ ‬مهرحان‭ ‬‮«‬كان‮»‬‭ ‬السينمائى‭ ‬الدولى‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬فارايتى‮»‬‭ ‬الإيطالية‭ ‬العريقة‭ ‬التى‭ ‬يزيد‭ ‬عمرها‭ ‬على‭ ‬‮001 ‬عام‭ ‬من‭ ‬الترفيه‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالفن‭ ‬وصناعة‭ ‬البهجة‭.‬

وأيضًا‭ ‬حصل‭ ‬الفيلم‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬فرانسوا‭ ‬شاليه‮»‬‭ ‬لعام‭ ‬‮8102،‭ ‬وسيمثل‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬مسابقة‭ ‬الأوسكار‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬أجنبى‭ ‬فى‭ ‬احتفاليته‭ ‬المرتقبة‭ ‬رقم‭ ‬‮91.‬

فمن‭ ‬منتهى‭ ‬الخصوصية‭ ‬انطلق‭ ‬أبوبكر‭ ‬شوقى‭ ‬المخرج‭ ‬الواعد‭ ‬للعالمية‭.. ‬انطلق‭ ‬مبدعنا‭ ‬الشاب‭ ‬من‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬وبحرى‭ ‬وعبر‭ ‬نيلها‭ ‬ومر‭ ‬شخوص‭ ‬فيلمه‭ ‬بتجارب‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حياتية،‭ ‬بل‭ ‬أزمات‭ ‬وجودية‭ ‬أظهرت‭ ‬جوانب‭ ‬ضعف‭ ‬وقوة‭ ‬لدى‭ ‬الجميع،‭ ‬لأنها‭ ‬أظهرت‭ ‬جوانب‭ ‬إنسانية‭ ‬ببساطة‭ ‬وعذوبة،‭ ‬فظهر‭ ‬الفيلم‭ ‬فى‭ ‬نسخته‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أيقونة‭ ‬أو‭ ‬بلدوزر‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭.. ‬صدمنا‭ ‬فبكينا،‭ ‬ثم‭ ‬ضحكنا‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬المشاعر‭ ‬الجياشة‭ ‬التى‭ ‬يصعب‭ ‬تجاوزها‭ ‬بسهولة‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تمر‭ ‬هكذا‭ ‬مرور‭ ‬الكرام‭.‬

فيلم‭ ‬يحدث‭ ‬لمشاهدة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإفاقة‭ ‬والاستفاقة‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬وحقيقة‭ ‬مؤلمة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬فى‭ ‬خانة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهى‭ ‬خانة‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتهميش،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬الحالات‭ ‬والدرجات،‭ ‬ولكن‭ ‬المبدأ‭ ‬ثابت‭ ‬وواحد‭. ‬

كلنا‭ ‬معزولون‭ ‬عن‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬ونهاب‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭.‬

ويهيأ‭ ‬لنا‭ ‬أحيانًا‭ ‬أن‭ ‬مَنْ‭ ‬أمامنا‭ ‬هو‭ ‬وحش‭ ‬مخيف،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬إنسان،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الخلائق،‭ ‬لكن‭ ‬عين‭ ‬الجور‭ ‬والغبن‭ ‬وعمى‭ ‬البصيرة،‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬تهيئ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬أمامنا‭ ‬شيئًا‭ ‬بغيضًا‭ ‬مخيفًا،‭ ‬وهو‭ ‬حمل‭ ‬وديع،‭ ‬والعكس‭ ‬أحيانًا‭. ‬

فلقد‭ ‬عانى‭ ‬الإنسان‭ ‬والحيوان‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬وعلى‭ ‬قدم‭ ‬المساواة‭. ‬

وظهرت‭ ‬معاناة‭ ‬الجميع،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬ينتهى‭ ‬الفيلم‭ ‬بعودة‭ ‬مريض‭ ‬الجزام‭ ‬لمستعمرته،‭ ‬ليعزل‭ ‬فيها‭ ‬اختياريًا‭ ‬وبقراره‭ ‬الخاص‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭.. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬خبر‭ ‬الحياة‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬ومر‭ ‬بتجارب‭ ‬حياتية‭ ‬وسافر‭ ‬وحاول‭ ‬ولم‭ ‬يقبع‭ ‬أو‭ ‬يقنع‭ ‬حتى‭ ‬تأكد‭ ‬ان‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬له‭ ‬بين‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأن‭ ‬الأفضل‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬أدراجه‭ ‬ويرجع‭ ‬لنقطة‭ ‬البداية‭. ‬وتكفيه‭ ‬الرحلة‭. ‬

فالمتعة‭ ‬فى‭ ‬الرحلة‭ ‬لا‭ ‬الوصول‭. ‬

فبالنشوى‭- ‬روى‭ ‬بطل‭ ‬الفيلم‭ ‬بل‭ ‬وأبطاله‭- ‬قلوبهم،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يحققوا‭ ‬مبتغاهم،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تحل‭ ‬مشاكلهم‭ ‬وظلوا‭ ‬فى‭ ‬عزلتهم‭ ‬التى‭ ‬أجبروا‭ ‬عليها‭ ‬فاختاروها‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬بأنفسهم‭ ‬لأنفسهم‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُفرض‭ ‬عليهم‭ ‬بالصخرة،‭ ‬ويُصبح‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬القبيح‭ ‬مديونًا‭ ‬لهؤلاء‭ ‬لا‭ ‬العكس‭.. ‬ويتكاتف‭ ‬ويلتقى‭ ‬من‭ ‬تعلو‭ ‬إنسانيته‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬بنى‭ ‬الإنسان‭. ‬

فاختار‭ ‬الطفل‭ ‬فى‭ ‬الفيلم‭ ‬‮«‬الطفل‭ ‬اليتيم‭ ‬النوبى‮»‬‭ ‬مريض‭ ‬الجُزام‭ ‬‮«‬عم‭ ‬بشاى‮»‬‭ ‬ليكون‭ ‬أبًا‭ ‬له‭ ‬وعوضًا‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬يتمه‭.. ‬وصار‭ ‬الطفل‭ ‬المنبوذ‭ ‬أيضًا‭ ‬رفيقًا‭ ‬ومصاحبًا‭ ‬لعم‭ ‬بشاى‭. ‬

وهكذا‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬اختار‭ ‬الطفل‭ ‬النوبى‭ ‬اليتيم‭ ‬المنبوذ‭ ‬المسلم‭ ‬واسمه‭ ‬‮«‬محمد‮»‬‭ ‬أبًا‭ ‬مسيحيًا‭ ‬منبوذًا‭ ‬مجتمعيًا‭ ‬وإنسانيًا‭ ‬ليكون‭ ‬أبًا‭ ‬له‭. ‬

وتلك‭ ‬تفصيلة‭ ‬شديدة‭ ‬العذوبة‭ ‬والأهمية‭ ‬فى‭ ‬الفيلم،‭ ‬وتعطى‭ ‬له‭ ‬أبعادًا‭ ‬أكثر‭ ‬جدية‭ ‬وأكثر‭ ‬رحابة،‭ ‬بل‭ ‬تتجاوز‭ ‬أزمة‭ ‬اليتم‭ ‬والمرض‭ ‬وتعلو‭ ‬عليها،‭ ‬لتلقى‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أزمة‭ ‬أكبر‭ ‬وهى‭ ‬الحقيقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬التى‭ ‬تقول‭ ‬بعدم‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬مستوى‭ ‬أو‭ ‬أى‭ ‬صعيد،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬لنا‭ ‬جميعًا،‭ ‬كما‭ ‬حدثنا‭ ‬‮«‬جبران‮»‬،‭ ‬وأننا‭ ‬جميعًا‭ ‬سنقف‭ ‬أمام‭ ‬إله‭ ‬واحد‭ ‬خلقنا‭ ‬جميعًا‭- ‬على‭ ‬اختلافاتنا‭- ‬فى‭ ‬أحسن‭ ‬تقويم،‭ ‬و‭ ‬هو‭ ‬يعلم‭ ‬ما‭ ‬تخفى‭ ‬الصدور‭ ‬ويقرر‭ ‬مصيرنا‭ ‬وسينصفنا‭ ‬يوم‭ ‬لقائه‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭. ‬

عرض‭ ‬الفيلم‭ ‬فى‭ ‬المنيا‭ ‬فى‭ ‬سابقة‭ ‬أراها‭ ‬مهمة‭ ‬جاءت‭ ‬فى‭ ‬ظرف‭ ‬وتوقيت‭ ‬مهم‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬المنيا‭ ‬المؤسفة،‭ ‬وما‭ ‬تعانيه‭ ‬تلك‭ ‬المحافظة‭ ‬دومًا‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بالعنصرية‭ ‬والتصنيف‭ ‬والغبن‭ ‬وعدم‭ ‬قبول‭ ‬الآخر‭. ‬

العرض‭ ‬سيدأ‭ ‬فى‭ ‬المنيا‭ ‬ثم‭ ‬سيُعرض‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬ثم‭ ‬بقية‭ ‬المحافظات،‭ ‬ليتحقق‭ ‬الشعار‭ ‬القائل‭ ‬إن‭ ‬‮«‬السينما‭ ‬هى‭ ‬أداة،‭ ‬بل‭ ‬آلية‭ ‬جعلت‭ ‬وابتكرت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنسانية‮»‬،‭ ‬فالسينما‭ ‬تحقق‭ ‬لنا‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬وتنصفها‭.. ‬ونحن‭ ‬ننفق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬وجهد‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬إرساء‭ ‬قواعد‭ ‬الإنسانية‭ ‬تلك‭ ‬وقيم‭ ‬المحبة‭ ‬والعدل‭ ‬والخير‭ ‬والمساواة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬وننتظر‭ ‬خلاصنا‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭.‬