يوم الدين
هو يوم الفصل.. يوم الإنصاف والعدل.. يوم ستتساوى فيه الرءوس.. وسيجتمع كل الخلائق مع خالقهم، ليُحاسب ويُجازى الجميع خيرًا أوشرًا، كلٌ حسب عمله.
وكلنا فى انتظار تلك اللحظة المرتقبة.. كلنا فى انتظار «يوم الدين».
كلنا فى انتظار المخرج والنهاية.. كلنا فى انتظار الخلاص وانتظار المخلص.
كلنا نتوق لأن نكون سواسية وأن نشعر بآدميتنا وأننا كلنا أبناء أم وأب واحد، وأن الأرض كانت لنا جميعًا والسماء كذلك.
كلنا «عم بشاى» فى فيلم «يوم الدين».. كلنا هذا الرجل.. كلنا هذا المنبوذ المجتنب.. كلنا هذا المرفوض.. كلنا هذا المكروه الذى يتم إقصاؤه.
لقد صرنا نحن المهمشين الجدد.. لقد صرنا هكذا.. فى عالم قاسٍ لا يعير التفاتًا لأحد ولا يرأف بحال أحد.. عالم يمضى فى طريقه على طريقته الخاصة وبقانونه الخاص جدًا ويدهس من يلاقيه فى هذا الطريق الطويل الوعر.. كلنا صرنا معزولين.. كلنا نعيش فى مستعمرة كبيرة.. مستعمرة استعمرها النظام العالمى الجديد بتوحشه الرأسمالى وفقره الإنسانى.
عجلات النيوليبرالية والتغريب تدهس الجميع وتكسر ظهور الكل.. فكلٌ فى مجاله قد عزل واغترب.
كلنا صرنا اليوم كمريض «الجُزام» فى فيلم «يوم الدين»، الذى كان نموذجًا طرح وقدم ككبش فداء وضحية لمجتمع بيروقراطى مترهل قاسٍ غير عابئ لا يكترث لأحوال العباد، فصار الجميع مثل «عم بشاى»، وصار الجميع فى انتظار الخلاص، وفى انتظار يوم الدين.
يتساوى فى ذلك مريض الجزام المعزول مع غيره من المعزولين وهم كثير.
الطفل النوبى اليتيم فى الفيلم.. القزم.. مَنْ بُترت ساقه فى حادث فاضطر للتسول.. المرأة التى نساها أهلها وتركوها.
فكل إنسان ميزه الله وخصه بميزة عن غيره من الخلائق واختصه بها، يعاقبه الغير عليها، وكأنها جُرم أو ذنب.
فالمريض مذنب ومنبوذ، والنوبى كذلك، واليتيم والفقير والمسيحى والمرأة والمعاق.. كل هؤلاء منبوذون مهمشون فى عالمنا القاسى، وكأن على الجميع أن يكونوا مثل الجميع!.
قطيع متشابه «غير متجانس» ليقبل ذلك الآخر غيره.. ففى الاختلاف تطاحن وخلاف، لا رحمة، المجتمع لا يقبل المختلف دومًا، يرفضه.. يقصيه.. يعزله.. يحتقره.. يخاف منه.. ويأنفه.. ويعزف عنه ويعافه!.
وتلك العزلة القاسية غير المبررة وذلك الغبن الأكيد، لا يقتصر ولا يخص فقط مستعمرة الجزام، وكأن الجميع يعيش فى مستعمرة كبيرة تُشبه مستعمرة الجزام التى يُقصى ويُسجن فيها المريض.. مستعمرة تضم الجميع دون قبول أو رأفة أو احتضان. عالمنا أصبح يعزلنا عنه ويعزلنا عن غيرنا، بل يعزلنا عن أنفسنا وعن إنسانيتنا وآدميتنا.
كلنا فى انتظار معجزة تخلصنا، وبما أن زمن المعجزات قد انتهى فصار الحلم والأمل الأوحد يتجسد فى «يوم الدين»، حين يتساوى الجميع وحين يقف الجميع أمام رب العباد، لا فضل لهذا على ذاك إلا بعمله الطيب.
وانتظارنا وتطلعنا ليوم الدين فى ذاته، أكبر برهان على انعدام أى بارقة أمل قد تلوح فى أفق هنا أو سماء هناك.
فبعد أن فقدنا الأمل على الأرض، صار التطلع للسماء، للميتافيزيقا، للعدم، للنهاية.. فيها الخلاص.
فالبدايات الجديدة صارت شبه مستحيلة، وصار الأمل فى الموت، أى «العدم والفناء» وانتظار يوم الحساب، هو جل الأمانى.. صار الأمل والتطلع فقط ليوم الدين وكأنه لا أمل فى الحياة، أى حياة.
قدر قاسٍ وموجع عبر عنه المخرج المصرى الشاب «أبوبكر شوقى» فى فيلمه «يوم الدين» بعذوبة منقطعة النظير، فلعب بخفة وحيوية- ودون أى اصطناع- على أوتار القلب والروح والبصيرة، فمس الداخل بلغة سينمائية بسيطة راقية وبشخوص حقيقية، وكأنه فيلم تسجيلى ينتمى لسينما الحقيقة.. لا دراما صنعها بمهارة وصدق فوصلت للجميع.
فى مهرجان «كان»، وفى مهرجان «الجونة»، وفى كل مكان يُعرض فيه هذا الفيلم الذى تخطى بلغته وبساطته حدود الزمان والمكان.
فهذا العمل تجسيد حقيقى لفن السينما التى هى لغة إنسانية عالمية لا تحتاج لأن تفهمها أو تشعر بها، أن تعرف العربية أو حتى تقرأ ترجمة للعمل.. الصورة حدثتنا فرأينا وشعرنا بكل شىء.
السينما الحقيقية الصادقة هى بالفعل لغة عالمية تتخطى وتتجاوز حدود الزمان والمكان، لذلك استقبل الفيلم بحفاوة فى مهرحان «كان» السينمائى الدولى وحصل على جائزة مجلة «فارايتى» الإيطالية العريقة التى يزيد عمرها على 001 عام من الترفيه والاهتمام بالفن وصناعة البهجة.
وأيضًا حصل الفيلم على جائزة «فرانسوا شاليه» لعام 8102، وسيمثل مصر فى مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى فى احتفاليته المرتقبة رقم 91.
فمن منتهى الخصوصية انطلق أبوبكر شوقى المخرج الواعد للعالمية.. انطلق مبدعنا الشاب من صعيد مصر وبحرى وعبر نيلها ومر شخوص فيلمه بتجارب وتفاصيل حياتية، بل أزمات وجودية أظهرت جوانب ضعف وقوة لدى الجميع، لأنها أظهرت جوانب إنسانية ببساطة وعذوبة، فظهر الفيلم فى نسخته الأخيرة على شكل أيقونة أو بلدوزر من المشاعر.. صدمنا فبكينا، ثم ضحكنا من فيض المشاعر الجياشة التى يصعب تجاوزها بسهولة أو أن تمر هكذا مرور الكرام.
فيلم يحدث لمشاهدة نوع من الإفاقة والاستفاقة على واقع وحقيقة مؤلمة مفادها أن الجميع فى خانة واحدة، وهى خانة الإقصاء والتهميش، مع اختلاف الحالات والدرجات، ولكن المبدأ ثابت وواحد.
كلنا معزولون عن بعضنا البعض، ونهاب بعضنا البعض.
ويهيأ لنا أحيانًا أن مَنْ أمامنا هو وحش مخيف، وهو فى حقيقة الأمر مجرد إنسان، شأنه شأن غيره من بقية الخلائق، لكن عين الجور والغبن وعمى البصيرة، هى من تهيئ لنا أن أمامنا شيئًا بغيضًا مخيفًا، وهو حمل وديع، والعكس أحيانًا.
فلقد عانى الإنسان والحيوان فى هذا الفيلم وعلى قدم المساواة.
وظهرت معاناة الجميع، ورغم كل محاولات التمرد على الواقع ينتهى الفيلم بعودة مريض الجزام لمستعمرته، ليعزل فيها اختياريًا وبقراره الخاص هذه المرة.. وبعد أن خبر الحياة عن قرب ومر بتجارب حياتية وسافر وحاول ولم يقبع أو يقنع حتى تأكد ان لا مكان له بين الآخرين، وأن الأفضل له أن يعود أدراجه ويرجع لنقطة البداية. وتكفيه الرحلة.
فالمتعة فى الرحلة لا الوصول.
فبالنشوى- روى بطل الفيلم بل وأبطاله- قلوبهم، وإن لم يحققوا مبتغاهم، وإن لم تحل مشاكلهم وظلوا فى عزلتهم التى أجبروا عليها فاختاروها فى النهاية بأنفسهم لأنفسهم بدلًا من أن تُفرض عليهم بالصخرة، ويُصبح هذا العالم القبيح مديونًا لهؤلاء لا العكس.. ويتكاتف ويلتقى من تعلو إنسانيته مع غيره من بنى الإنسان.
فاختار الطفل فى الفيلم «الطفل اليتيم النوبى» مريض الجُزام «عم بشاى» ليكون أبًا له وعوضًا له عن يتمه.. وصار الطفل المنبوذ أيضًا رفيقًا ومصاحبًا لعم بشاى.
وهكذا يكون قد اختار الطفل النوبى اليتيم المنبوذ المسلم واسمه «محمد» أبًا مسيحيًا منبوذًا مجتمعيًا وإنسانيًا ليكون أبًا له.
وتلك تفصيلة شديدة العذوبة والأهمية فى الفيلم، وتعطى له أبعادًا أكثر جدية وأكثر رحابة، بل تتجاوز أزمة اليتم والمرض وتعلو عليها، لتلقى الضوء على أزمة أكبر وهى الحقيقة المؤلمة التى تقول بعدم قبول الآخر على أى مستوى أو أى صعيد، رغم أن الأرض لنا جميعًا، كما حدثنا «جبران»، وأننا جميعًا سنقف أمام إله واحد خلقنا جميعًا- على اختلافاتنا- فى أحسن تقويم، و هو يعلم ما تخفى الصدور ويقرر مصيرنا وسينصفنا يوم لقائه «يوم الدين».
عرض الفيلم فى المنيا فى سابقة أراها مهمة جاءت فى ظرف وتوقيت مهم بعد أحداث المنيا المؤسفة، وما تعانيه تلك المحافظة دومًا من مشكلات لها علاقة بالعنصرية والتصنيف والغبن وعدم قبول الآخر.
العرض سيدأ فى المنيا ثم سيُعرض فى القاهرة ثم بقية المحافظات، ليتحقق الشعار القائل إن «السينما هى أداة، بل آلية جعلت وابتكرت من أجل الإنسانية»، فالسينما تحقق لنا إنسانيتنا وتنصفها.. ونحن ننفق عليها من أموال وجهد فى سبيل إرساء قواعد الإنسانية تلك وقيم المحبة والعدل والخير والمساواة على الأرض، قبل أن ننظر إلى السماء، وننتظر خلاصنا «يوم الدين».