رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القانون الغائب فى «عزبة العرب»


الاقتصاد فى مصر، كما فى جميع دول العالم، لونان، اقتصاد أبيض، والآخر أسود.. والأول، هو المعروف بأنه النشاط الأساسى الذى تعتمد عليه الدولة فى إثبات مقوماتها وتستفيد منه، لأنه يقوم بتوفير فرص عمل، ويسدد الرواتب والتأمينات الاجتماعية، ويؤدى ما عليه من ضرائب ورسوم، نظير ما تؤديه الدولة له من خدمات، وهو اقتصاد صحى يُنبئ عن قوة الدولة وقيمة عُملتها النقدية، ومدى مساهمتها فى الاقتصاد العالمى.

أما الاقتصاد الأسود، وكما يتضح من اسمه، فإنه يعمل فى الظلام، غير معروف وغير معلوم للدولة، ولذلك فإنه اقتصاد يستفيد من الخدمات التى تقدمها له ولا يقوم بسداد الحقوق المترتبة عليه من ضرائب ورسوم، بالإضافة إلى رداءة نوعية ما ينتج عنه من خدمات أو منتجات، هى إلى الغش التجارى أقرب من أى مسمى آخر، حينما يقوم بتقليد العلامات التجارية الكبيرة، فيضر بالمصانع الأصلية وباسم منتجاتها وعلاماتها التجارية، ويجعل الأفراد ينصرفون عن المنتجات الأصلية، تحت وهم رخص الأسعار والنفاذ إلى تجمعات لا تصل إليها السلعة الحقيقية.. ولكن أخطر ما فى مصانع «بير السلم» هذه، هو صناعات قطع غيار السيارات والدواء، التى تقوم عليها مافيا كبيرة، تقوم بجمع عبوات الدواء المستعملة وتعبئتها بأدوية منتهية الصلاحية أو ثانية فاسدة أو أخرى تمت إعادة تدويرها، وهذه تسبب كوارث اقتصادية، ولكن أخطر ما فيها، هو الأضرار الصحية والبيئية والاجتماعية، لأن أبسط هذه الأضرار هو العجز، أو الوفاة.. هذا الاقتصاد، الذى يمثل ٤٠٪ من الاقتصاد الرسمى للدولة، ويشير أحد التقارير إلى أن حجمه بلغ ١.٨ تريليون جنيه، يمثل عبئًا على الاقتصاد الوطنى، يأخذ من الدولة بعض مواردها دون مقابل يدفعه، ولذا فإنها تكون غير قادرة على حساب معدلات النمو الاقتصادى فى هذه القطاعات، لكونها بعيدة تمامًا عن السجلات الرسمية!.
كانت هذه مقدمة ضرورية، بعدما تعددت زياراتى لمنطقة «عزبة العرب»، الواقعة خلف نادى «المقاولون العرب»، فى منطقة غرب مدينة نصر، وهى إحدى المناطق التى ظلت طوال سنوات طويلة، تعيش فى أحضان الموت، بسبب طبيعتها الجبلية غير المستقرة، وما نشأ عليها من عشوائيات سكنية، استطاعت الدولة توفير مساكن حضارية للعديد من سكانها، فى مناطق أخرى، وعشوائيات صناعية، تخصصت فى «ضرب» كل شىء، بدءًا من العبوات المزورة للسلع المشهورة، وحتى الغش فى الأغذية والأدوية وغيرهما.. وهى منطقة قامت على أنقاض مقالب القمامة، استولى عليها بعض الوافدين، خاصة من منطقة الصعيد، واعتبروها أملاكًا بوضع اليد، بنوا فوقها عمارات سكنية، ومصانع وورشًا، تعمل فى كل شىء، تحيل التراب إلى ذهب، ينتفعون به وحدهم، دون حق يُذكر للدولة، مع أنها قدمت، هناك، خدمات الكهرباء والماء والصرف الصحى، وأتاحت التعليم فى مدارس أُنشئت حديثًا.. كل الذى استفاد من هذه المنطقة، هم المحسوبون على الدولة المصرية، هم العاملون فى المحليات ومصلحة الضرائب، الذين يقومون بجباية الأموال، من أصحاب المصانع والورش، لجيوبهم الخاصة، ثمنًا للسكوت عن كل شىء مُحرم ومُخالِف، يضر بصحة المواطن، ويُهدِر اقتصاد البلد.. حتى التابعون لبعض الجهات الرقابية، يحذون حذو زملائهم الذين أشرنا إليهم سلفًا، مع ما فى ذلك من خطورة، تتمثل فى وجود مطابع للطباعة بالأوفست أربعة ألوان، لا تحمل ترخيصًا من الجهات الأمنية، وتستطيع، أو هى بالفعل، أن تقوم على طباعة أغلفة السلع من الماركات المُسجلة والمشهورة، تتبعها مصانع لصناعة عبوات تلك السلع، ناهيكم عما يمكن أن تقوم به هذه المطابع من منشورات ومطبوعات، لا تخضع للسيطرة، فى المحتوى أو فى نوعية المطبوع، وهى نتاجات قد يستغلها البعض فى الإضرار بأمن البلاد، فى ظل وجود البعض هناك، ممن يُحسبون على الجماعات المتطرفة، فى سرية، ودون إعلان عن أنفسهم.
هل معنى ذلك أنه لا وجود للدولة هناك؟
كما قلت.. هناك وجود يصب فى مصلحة بعض العاملين فى الدولة، كالضرائب والتأمينات، والصحة والرقابة على المطبوعات، ومصلحة الغش التجارى.. ووجود شرطى، مرهون بطبيعة المنطقة التى يسيطر عليها من يسمون «شيوخ العرب»، أو كبراءهم، الذين لا أعرف لهم أصلًا ولا فصلًا، اللهم إلا سطوة فرضوها، بفضل «عِزوة» عددية من أتباعهم، يمكنهم البطش بمن خرج عن سطوة «الكبير».. صحيح، أنك تستطيع الشكوى إلى قسم شرطة مدينة نصر، من خلال «محضر»، يسطره لك أمين شرطة مناوب، تبدى فيه شكواك أو تضررك من فعل قام به أحد تجاهك، ولكنه «محضر» مكتوب عليه «الحفظ» فى أغلب الأحيان، «لعدم كفاية الأدلة»!.. والحل دائما عند الكبير، الذى يحكم لك أو عليك، ليس بدافع إحقاق الحق فى كل مرة، ولكن بغلبة أى الخصمين، أو نفوذه، أو قدرته على إرضاء الكبير.. وليذهب الحق إلى الجحيم.. المهم أن يظلل الهدوء ربوع المنطقة، وتلك أمانى القائمين على الأمن فى تلك المنطقة، لأنها تُعلى من قدر تقارير أدائهم عند مرءوسيهم فى الوزارة، وترفع عن كاهلهم مجابهة المشاكل فى تلك المنطقة، لأن هناك من ينوب عنهم فى ذلك.
سألت رئيس الحى السابق: لماذا لا يتم التحرك نحو إعادة تخطيط المنطقة، وإخضاعها للاشتراطات التى تقوم عليها كل المنشآت الصناعية، خاصة أن الدولة أعلنت عن بدء تلقى أجهزتها المعنية طلبات الراغبين فى توفيق أوضاع المنشآت التى قامت بالمنطقة على أساس وضع اليد، وسبق لكبار العرب المهيمنين عليها، أن باعوها لمن يشغلها الآن؟.. فأخبرنى بأن وزارة التخطيط بصدد إعادة رسم المنطقة على أسس حضارية، تراعى شروط الأمان لساكنيها وشاغلى وحداتها الإنتاجية، كما تحقق اندماج اقتصاد هذه المنطقة فى الاقتصاد الرسمى للدولة المصرية، فمثل هذه المنطقة وغيرها مما يشبهها، تُضيّع على الدولة ما يزيد على أربعمائة مليار جنيه، مستحقة للدولة، عما يتم فى هذه المنطقة من أنشطة، تتمتع بكل الخدمات التى تقدمها الحكومة.
ومع هذا.. فما زال مسلسل البناء هناك مستمرا، دون اشتراطات هندسية، ولا مراعاة للظروف البيئية للمنطقة، الأمر الذى دفع أحدهم لبناء برج ارتفع إلى تسعة أدوار، يشغلها مصنع مملوك له، مثّل فيما بعد، تهديدًا لعمارتين سكنيتين، يُقال إنهما مالتا إلى أحد الجوانب، ما يهدد ساكنيهما، والمحيطين بهما، بالموت فى أى لحظة.. صحيح أن رئيس الحى الجديد طالب بإزالة البرج، لكن ذلك لا يُعد حلا لما يحدث فى «عزبة العرب»، بقدر ما هو مواجهة لحالة فردية، يتكرر مثلها كثيرًا.. والحل الحقيقى يكمن فى سطوة القانون الغائب عن هذه المنطقة، وأن تتواجد الدولة هناك بحق، انتصارًا لحقها، وحق المواطن، الذى يجب أن يشعر بالمساواة بينه وبين غيره، فى الحقوق والواجبات.. فمن غير العدل أن يدفع البعض ضرائب عن أنشطتهم، والبعض يتهرب منها، وكل الفرق بين الحالتين أن إحداهما مسجلة فى مستندات، والأخرى فى الهواء.. مع أن كل ذلك تحت سمع وبصر العاملين فى جهات الاختصاص.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.