رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ياما دقت على الراس طبول


تزايد وتيرة التخلص من الأبناء بالقتل، تحت ضغط الظروف الاجتماعية والأحوال المعيشية الصعبة، والانفلات الأخلاقى، وانهيار قيمة العمل، واضمحلال معانى الولاء والانتماء، لا تعد كلها أمراضًا فى ذاتها، بقدر ما هى أعراض لمرض أشد فتكًا بالمجتمع، من الممكن أن يودى به إلى الهلاك، إذا نحن لم نبادر بعلاج أسبابه ووأد بوادره فى مهدها، وما زالت الفرصة سانحة حتى الآن، ولكنها تحتاج دأبًا وهمة، وعزمًا من المجتمع برمته، للوقوف فى وجه كارثة قومية، عنوانها «تآكل الشخصية المصرية وانهيار هويتها».

فقد قال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مؤتمر الشباب الأخير: «إن صياغة الشخصية المصرية لم تعد نوعًا من الترف الزائد، لكن المدقق فى الأمر سيجد أنها لب القضية، فلا تقدم ولا نهضة إلا من خلال إعادة صياغة الشخصية المصرية من جديد، حتى نعيد القيم والأخلاق مرة أخرى، لتكون هى الأساس فى المجتمع»، مشيرًا إلى أن «بناء الإنسان أصبح تحديًا للإنسانية كلها».

وبناء الشخصية المصرية هنا يجب أن يليق بتغيرات العصر، ويقوم على شراكة مجتمعية حقيقية وإحساس بأهمية التغيير، وبناء فكر وعقل ووجدان الشخص، لأن رؤية الفرد للحياة سوف تتغير من خلال تعليم وثقافة، وبناء قيم أخلاقية فاضلة.. فالمعارف والمهارات تتم من خلال التعليم، وبناء الوجدان يتم من خلال نشر الثقافة وتذوق الفنون والآداب والمسرح والفنون التشكيلية، كما أن القيم الأخلاقية يتم اكتسابها من خلال الأسرة والمؤسسات الدينية.. إذن هى مسئولية مجتمعية كاملة، ليست عسيرة، لكنها تحتاج تخطيطًا وصبرًا، خاصة ونحن نؤمن بأن الشخصية المصرية ليست مشوهة فى ذاتها، لكن الذى تشوه هو السياق والظروف التى يعيش فيها الشخص، بدليل أنه فى حالة نقله إلى سياق آخر، فإنه يُنتج ويكون من الشخصيات الفاعلة، ولدينا من الشخصيات المصرية حول العالم، ما يضرب الأمثال للناس فى أن البيئة هى صانعة الشخصية وهى مناط نجاحها، وما حدث فى مجتمعنا، أننا تركنا المواطن المصرى، لفترة طويلة من الزمن، دون تعليم وثقافة، وهو ما أثر على شخصيته، وأوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، وصار يحتاج تدخلًا عاجلًا.. لأنه ببساطة صار مريضًا فى غرفة الإنعاش، والوقت مهم، والدواء الناجع أهم.

وحتى لا نكون مجحفين لحق الإنسان المصرى، علينا أن نعترف له بخصائص تفرد بها طويلًا، فهو إنسان قوى، لا ينهزم أمام الأزمات، ولا تنال منه مهما اشتدت.. يخرج من الأزمات الطاحنة قادرًا على التجدد، واستمرار الحياة، وتدارك الأزمة.. لم يستسلم، عبر تاريخه، لأزمة مهما تفاقمت، وجرت العادة أنه لا يموت تحت وطأة الأزمات، بل تتلاطم أمواجها ثم تنحسر عنه، فإذا به عميق الجذور، ثابتًا، باقيًا.. وهو واسع الأفق، غير متقوقع على نفسه، بل خرج منه جيل من وراء جيل، وهو يرى الدنيا بأكملها تأتى إلى أرضه، كما قال بذلك الدكتور أسامة الأزهرى ذات مرة: «تجلس منه، مجلس التلميذ من الأستاذ، فى جامعة القاهرة العريقة، أو فى الأزهر الشريف، أو من الحجاج العابرين على أرضه، من خلال طريق الحج الإفريقى، أو طريق الحجاج المغاربة، أو أبناء الملايو وجنوب آسيا، من القاصدين إلى أرض مصر للتزود من العلم والمعرفة، فتفتحت عين الإنسان المصرى واتسع وعيه بالتدريج ليدرك أن وطنه بالفعل أم الدنيا، ومُعلم العالم، فصار إنسانًا واسع الأفق، عظيم الطموح، مدركًا لقيمة نفسه وأرضه ووطنه، مما يزيده مقدرة على اجتياز أزماته، وتشغيل ثروات وطنه ليكرم ضيوفه»، إلى غير ذلك من المكونات الدقيقة التى صنعت فى الإنسان المصرى وعيًا عامًا، بأن خاطره رحيب ومتسع، وأن آفاقه، كمصرى، ممتدة، وشغفه بالعمران والبناء والتشييد عميق، منذ أن شيّد الهرم الأكبر ونحو مائة هرم أصغر منه، مع الأبنية الهائلة، التى تشهد بتقدمه وسبقه فى العلوم الهندسية وفنون المعمار وولعه بالبناء، انتهاءً بالفلاح المصرى البسيط رقيق الحال، الذى يظل على مدى سنوات يدخر، فإذا سألته قال: «حتى أبنى حتة بيت»، ما يدل على بقاء الشغف المتوارث بالعمران كامنًا فى أعماق وجدان الإنسان المصرى، فلا تستسيغ فطرته أبدًا أن ينخرط فى الهدم ولا التدمير ولا الفساد.

من هنا، نطرح السؤال المهم: من أين نبدأ؟.. لكى نبنى ملامح الشخصية المصرية، لا بد من التركيز على أمرين.. أولهما استنهاض الهمة والعزيمة والإرادة، وثانيهما بناء عقلى جديد بين أفراد المجتمع وبعضه وبين الشعب والحكومة، بناء يقوم على ضرورة وجود أهداف قومية للوطن، بالتوازى مع المشروعات القومية التى يشهدها البلد، وأن يكون بناء وتنمية الإنسان المصرى وفقًا لقيم وأخلاقيات، وملف التعليم فيه مهمًا للغاية، لكن لا بد من برنامج وطنى يستنبط الهمم، ويحدد للمصريين كيف يعملون، بعد تحديد معوقات تطوير شخصيته لمعالجتها، على رأسها قضية الأمية التى يقول عنها خبراء التنمية البشرية إنها البيئة الحاضنة للتخلف والجهل، وقضية الإرهاب التى لا بد من تطويقها وتجفيف منابعها لإتاحة مساحة أكبر للتنمية، وبناء شخصية وطنية تعضد الانتماء للوطن وتمد يدها للبناء وليس للهدم.. وهنا يقول الرئيس السيسى، «إن بناء فكر أمة على أن الحرب هى الأساس والسلام هو الاستثناء، هذا أكبر فهم خاطئ للدين»، وهذا من أكبر المخاوف من إصلاح الخطاب الدينى فى ظل هذه المفاهيم المغلوطة، لأن من أبرز أعمدة الشخصية المصرية، أن تدينها عبر تاريخها قادها إلى الحضارة، فالمصرى ليس متدينًا فقط، بل متدينًا تدينًا يصنع الحضارة.

لا أخاف على الشخصية المصرية المتفردة فى نوعها، فهى دائمًا ما تتحمل الصعاب، ودائمًا ما تعيش فى خطر، والخطر يزول وتبقى الدولة.. هل تذكرون ستينيات القرن الماضى، وقت أن حاولت القوى الإرهابية إسقاط مصر، وقفت الخصائص الأصيلة للشخصية المصرية، تواجه محاولات التقسيم التى يحاول البعض افتعالها على أساس الدين والمذهب، وسعى من سعى لتفتيت الضمير الجمعى ومحاولة إعادة ترتيبه على أرضية التدين الشكلى، لكنهم لم يفلحوا، فالذاكرة الوطنية التى وقفت بالمرصاد لكل الغزاة الذين سعوا لاختراقها وتدميرها، وقفت أيضًا لهؤلاء، وكان التواصل المجتمعى قادرًا على إحداث التماسك المطلوب بين أفراد المجتمع، فى مواجهة هذه الشدائد.. لا أخاف على مصر، لأنه كلما بهتت ملامح شخصية أبنائها بقيت الأصول ثابتة، لتسترجع ملامحها الأصيلة، وقديمًا قالوا، وما زلنا نقول: «ياما دقت على الراس طبول».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.