رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتظار ما قد أتى


وقفنا فى بهو كبير.. استقبال فندق أو قاعة حفلات فى سفارة، وبينما نحن الضيوف منهمكون فى الأحاديث الجانبية والنادل يمر بصينيته، جاءنا الأمر إلهامًا، لكننى فهمته، واستجبت له رغم حداثة عهدى بالوحى واستجاب له كل من حولى، فتراصصنا متجاورين على هيئة نصف قوس، وأصبحنا خارج الكادر موجودين لكن غير مرئيين، كان التركيز بالكرين على مائدة حافلة بالطعام وفى منتصفها كرسى واحد، لم أكن جائعة، وكان الطعام بعيدًا عنا، لم يكن فى متناولنا، حتى إنى لم أشتهه وربما كان هذا حال كل المتحلقين حول القوس المشدود، وظهر الرجال المهمون الذين يرتدون «بِدل كحلية» ويرتدون نظارات سوداء وتطل من آذانهم سماعات، وأيديهم منعقدة دائمًا أسفل سرتهم فى قراءة دائمة لفاتحة لا تليق كمفتتح لآية صلة.

اتخذ الرجال أماكنهم فى حركة مدروسة، كان المسرح مهيأ لحدث ما وكنا الجوقة والمتفرجين للعرض الحى والمبثوث على الهواء، طال الانتظار ودخل فجأة، لم ينتبه لوجودنا وكان هناك اتفاق ضمنى ألا نصفق، كان قصيرًا ويرتدى جلبابًا أبيض أقصر منه حتى ظهر الشراب البيج الذى يرتديه، لا أتذكر لون حذائه لكنه كان حذاءً برباط وبالقطع كان أسود، كان يتحرك كما فى عروض البانتوميم، لكنه أشبه ما يكون بيونس شلبى فى «العيال كبرت»، لم تكن هيئته مصدر دهشتى فلا يليق برجل مثله أن يظهر هكذا بعد طول انتظار، إنما الأصعب كانت البقعة التى تبلل ملابسه من الأمام، بقعة دائرية كبيرة تتوسط جلبابه كله والغريب أنها لم تكن بقعة بلل الماء بل كأنها مياه مختلطة بدماء، مثل تلك التى تبقع ملابس وملايات المرأة فور الولادة، كانت بقعة مبللة بكدر، إضافة لهيئته الغرائبية، أخذ يأكل ليس بنهم ولكن بجوع حقيقى وبدا مستعجلًا فكان يخطف من كل طبق لقمة، معلقة.

كان البهو ساكنًا فبدت حركته الشىء الوحيد المتاح، أثار ظهوره الحنق والغيظ، وفهمت أن من يحيطوننى تسربت إليهم نظرية المؤامرة، تمنيت من باب الولاء أن يزيحه أحد الحراس، لكنهم كانوا ينتظرون تعليمات ما وظلت أيديهم على مثانتهم وظل الرجل يتراوح فى حركته بان يمين، بان لفت، ونحن فى الخلفية لا يريد المُخرج أن يظهرنا فى الكادر، ولا مدير الإنتاج لديه أمر ليدفع لنا أجرة وقفتنا، كنا على يقين أن الله يستجيب الدعاء ولكن متى يشاء، كنا مضبوطين هذه المرة على الدهشة والانبهار، كنا فى كل حالة دهشة منبهرة، حتى تغاضينا عن الستينيات وما أدراك ما الستينيات التى كانت تقام فيها حفلات أم كلثوم فى هذه القاعة، انبهارًا أقول، العريقة، اندهاشًا أقول: العريقة.
ولما شاء من شاء، تحرك الرجال الجدد وبرفق مبهر أخرجوه وأخلوا خشبة المسرح.
اجتمع السادة فى البيت العالى، وقالوا من يضع الحجر الأسود فى مكانه من الكعبة، قالوا أول من يدخل علينا من «باب الصفا»، طوق الرجال المداخل والمخارج، ودخل الرجل الجائع، فقالوا إنه محمد. كنا مندهشين كأن على رءوسنا الطير، لكن صوتًا صغيرًا، كسر الصمت وأيقظنا: إنه ليس «محمد»، إنه «مدمم»، انفتحت أعيننا كانت البقعة المدممة فى جلبابه تزداد، حاول الملك أن يستر عورته لكن صوت الطفل «الملك عار» كان أكبر من الفضيحة ومن السمع والطاعة، فخرجنا مطأطئى الرأس وانطفأت أنوار قبة جامعة القاهرة، لمبة، لمبة، حتى نسينا للمرة الثانية أن نأخذ أجرنا.
وقرر العالمون ببواطن الأمور أن تُمنع النساء اللاتى بينهن وبين الله عمار والأطفال الذين يرون الملك عاريًا من حضور الاحتفالات، رغم ما يضيفه حضورهم من قيم إنسانية تحظى بجذب الكاميرات فى حركات اللفت والبان.

تجمعنا ثالثة فى حقل كبير، لا نعرف له مكانًا على الخريطة، أقاموا بوابات إلكترونية عند الجهات الأربع للحقل، تقدم الطابور فى سلام، حتى جاء دورى لعبور البوابة، فأخذت البوابة تصفر، خلعت خاتمى، صفرت، حلقى، صفرت، أخذونى على جنب، اكتمل الحضور وظللت بعيدة، حتى جاء كبير الحراس وطلب إجراء تفتيش ذاتى، استدعوا إحدى الأخوات، تحسستنى، همست فى أذن المسئول طلبت أن أخلع ملابسى، وببعض من الغضب ودحًرا لهم، خلعت معصمى، وفوجئت أكثر مما فوجئوا بوجود ريش على ذراعى، من أين أتى هذا الريش، أى مرض أصابنى؟، عصبوا عينى، واقتادونى إلى عربة كارفان أو ربما أسفل منصة، وهم يسحبوننى كان عقلى ينتفض بشدة وأنا لا أسيطر عليه، والريش أصبح أغزر، وأمسى يضايقنى.
كانت كل الأسئلة خارج ما أعرفه:
– من أرسلك إلى هنا؟
- أنت عميلة للكفرة؟
- من يمولك؟
- كلمة واحدة كنت أرددها: لا لا لا.
اقتادونى إلى عربة وفى طريقى كانت عشرات الطيور معلقة، مصعوقة على الشبكة الذى أقاموها لأى كائن يمكنه أن يفرد جناحيه، متأثرة بتحنط سنين، وبرغبة فى انعتاق روحى، فردت جناحى وطرت، حزينة كنت، ينخر البرد عظمى، لكنى حلقت بعيدا، فيما أخذ غراب أسود، ينعق منذرا بقية الطير مما قد أتى.
مقطع من قصة «فى انتظار ما قد أتى» من مجموعة «الحور العين تفصص البسلة»