رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تطوير التعليم.. أحلام النظرية وتحديات التطبيق


المهمة القومية العاجلة والملحة، ونحن نبنى مصر الجديدة، تتلخص فكرتها فى كيفية تحويل «الإلقاء والحفظ والاسترجاع»، الذى تقوم عليه العملية التعليمية الآن، إلى «التعليم والتفكير والإبداع».
هذا هو التحدى الذى يجب أن يقوم على فلسفة مطابقة النظرية مع واقع الحال، فى تعليم وصل إلى مرحلة الحضيض، عبر سنوات من الإهمال، خَلّفت أجيالًا، هى إلى الجهل والأمية أقرب مما عداها، من أى مصطلح يمكن أن نطلقه على ما حدث فى مصر، خلال سنوات التعليم العجاف، التى ضاع فيها دور المدرسة، واستفحلت سطوة الدروس الخصوصية والكتب الخارجية، ووقع المدرس أسيرًا للقمة العيش، محرومًا من تأهيل مهنى غاب عنه بفعل فاعل، الأمر الذى بات معه إطلاق استراتيجية جديدة للتعليم، تقوم على التفاعل والمشاركة، والإبداع والابتكار، أولوية أولى، كان يجب أن تبدأ فعالياتها قبل عدة سنوات مضت، حتى تكون لدينا منظومة تعليم مدرسى، تتواكب مع متطلبات العصر وسوق العمل، وتُعد وتُخرِج لنا أجيالًا من الشباب، على أحدث وأرقى المعايير العلمية العالمية.
وبما أن «ما لا يُدرك جُله لا يُترك كُله»، فقد بدأت وزارة التربية والتعليم، قبل عام، بحث خطتها لتطوير التعليم فى مصر، حتى إذا ما استوت على عودها، أعلن الوزير استراتيجية وزارته لانتشال التعليم، من خلال ضبط المحتوى العلمى، وتوفير البنية التكنولوجية والمناهج وتدريب المعلمين، فضلًا عن نظام التصحيح الإلكترونى وبناء بنك الأسئلة، وتعدد مصادر المعرفة والاعتماد على بنوك المعلومات، للاطلاع والبحث والدراسة، لتنمية قدرات المُتعلم وإتقان مهارات التعليم الذاتى، تمهيدًا لتنفيذها مع بداية العام الدراسى المقبل.. ومع أن الحوار المجتمعى بشأن بعض القضايا يكون أحيانًا مُعطلًا للمشروع القومى، ومثيرًا للبلبلة، خاصة إذا عمد البعض إلى الولوج فى تفاصيله، وأهدافه ومراميه، بنوازع شخصية، أو لدواع لا تراعى الأمن القومى للدولة، إلا أن الوزير لم يشأ إلا أن يشارك كل من كانت له علاقة بالعملية التعليمية، ليدلو بدلوه، فرب خاطرة شاردة، أو فكرة واردة، كانت من الأهمية لتعديل مسار العملية برمتها، والوصول بها إلى ما نريد.. ولكن الغِربان لا تزال تنعق فى كل وادٍ.

فالذين قاموا بحشد المواطنين ضد الحكومة، عبر الإعلام، قبل شتاء العام الماضى، لرفض صفقة دجاج، كانت الحكومة تنوى استيرادها لسد عجز محتمل فى الدواجن، أفلحوا فى جعلنا نهاجم هذه الصفقة بضراوة، بحجة تشجيع المنتج الوطنى، بعد أن وعدنا المنتجون بخفض أسعار الدجاج المحلى، حتى رضخت الحكومة، وأوقفت الصفقة، وإذا بالمنتجين يحنثون فى وعدهم، وارتفعت الأسعار حتى اكتوينا بنارها!.. وتبين أننا كنا طيبين أو سذجًا، حين انسقنا وراء حملة أصحاب المصالح، دون أن ندرى، أن أكبر منتج للدجاج فى مصر، يُفترض أنه من المدافعين عن مصالح الغلابة.. وعندما أودت حوادث العديد من مقطورات النقل، بحياة الكثير من المصريين، حاولت الحكومة استصدار قانون لمنع استيرادها، منعًا للكوارث وحماية لأرواح ودماء الناس، وتبين أن «لوبى» من المُشرعين يمتلكون هذه المقطورات، وتم أيضًا إجهاض المحاولة!.. ويتكرر الآن الوضع مع د. طارق شوقى، وزير التربية والتعليم، لأن التعليم لم يعد رسالة، بل أصبح فى نظر أصحاب المدارس ومراكز الدروس الخصوصية ومؤلفى ومنتجى الكتب الخارجية وغيرهم، تجارة وشطارة، وسلعة تُباع وتُشترى، ووسيلة لجنى الأرباح، وليذهب الوطن والمواطن إلى الجحيم!.. وهؤلاء يحاربون، بمنهج صراع البقاء، النظام فى الخفاء، ويضربونه تحت الحزام، كلما سنحت لهم الفرصة لذلك!.. ويخوضون معركة ضد المواطنين البسطاء، بإحداث بلبلة فى عقولهم، تجاه خطة الدولة لتحديث التعليم، عن طريق الحشد الإعلامى الخبيث!.. يهاجمون المشروع القومى لتطوير التعليم فى مصر، أهم مشروع تتوقف عليه حياة مصر أو فناؤها.. يهاجمون الوزير الخبير، الذى قام بتطوير التعليم فى اثنتين وعشرين دولة، فى إطار منظمة اليونسكو، لأنه لو نجح هذا الوزير، لبارت سلعتهم الرديئة وهو التعليم الخاص الذى يتاجرون به، ويمتصون من خلاله دماء المواطنين، ناهيك عن أنه كان وراء التقسيم النوعى لشباب البلد، كلٌ حسب نوع تعليمه، وتبعيته لدولة ما، حتى انقسم هذا الشباب ثقافيًا، كما سبق أن اختلفوا اجتماعيًا.

لكن المدهش أن المواطن بات يعرف خبث هؤلاء المُدعين، وقد أعجبنى بعض ما جاء عبر وسائل التواصل الاجتماعى، من هؤلاء الذين يقولون عن وزير التربية والتعليم: «لما تعرف إنه كان شغال خبير تعليم فى اليونسكو، وعالم رياضيات وميكانيكا، وعميد كلية العلوم والهندسة بالجامعة الأمريكية، ووضع برامج تطوير للتدريس والاتصال على مستوى عالمى، وحاصل على جوائز من جوه ومن برة.. ولما ييجى يحط برنامج لتطوير التعليم فى مصر، نحوله بجبروتنا لراجل مش عارف هو بيعمل إيه، وجاى يجرب فى ولادنا، بقرار طق فى دماغه فجأة، وكأنه بياع بطاطا ضل طريقه لوزارة التعليم.. ولا كأنه كان خبير دولى وأستاذ جامعيًا ومسئول عن المجالس القومية المتخصصة، ومنها مجلس التعليم فى حين أن ده رجل كانت إحدى مهامه فى اليونسكو تطوير التعليم فى اثنتين وعشرين دولة.. وبما إن مركزنا فى ترتيب جودة التعليم بين الـ١٥٠ دولة هو الـ١٤٨.. فده معناه إنه كان بيطور التعليم فى دول متقدمة عن مصر.. وربنا إحنا مش محتاجين تطوير تعليم.. إحنا محتاجين قبلها لعلاج نفسى وعصبى ومعوى كمان، علشان بقى عندنا تسمم عقلى ونفسى مزمن»!.
بناء مصر يبدأ بالتعليم، وهو، كمشروع قومى، لا بد أن يخضع لنظرية «ديمقراطية الحوار وديكتاتورية القرار»، لأن ما يراه الخبراء المختصون بتطوير العملية التعليمية فى مصر، أشمل وأعم، وذو جدوى، من تلك الرؤى الضيقة لبعض أولياء الأمور، الذين لا هم لهم إلا مصالح آنية لأبنائهم، قد تعيق المنظومة التى تحتاج إلى سنوات، حتى تستقر، وتؤتى أُكلها، وليعلم الجميع أن أولياء الأمور، هؤلاء، هم حطب المعركة التى يوقدها كل منتفع من بقاء التعليم فى مصر على حاله، أو تطويره بأسلوب «الِحمارة العرجاء».. وهم أيضًا الذين تغلب عندهم العاطفة نداء العقل!.
صحيح.. نحن بصدد أولويات لا بد من توافرها، حتى يستقيم سير تطوير العملية التعليمية، أولاها خلق بيئة مدرسية صالحة للتعليم والتربية، وممارسة الأنشطة، الثقافية والرياضية والمهارات اليدوية والأشغال، وكل ما يحيل ساعات المدرسة إلى لحظات سعادة، تهفو نفس الطالب إليها، فيذهب إليها، مقبلًا غير مدبر، راغبًا غير كاره.. وثانيتها تأهيل المُعلم لهذه المرحلة الجديدة من التعليم فى مصر، بما يلزم من المهارات والسلوكيات واستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة، مدركًا المفاهيم التربوية للعملية التعليمية، حتى يتحول، مع الأيام، إلى قدوة ومثل، مثلما كان المعلم قدوة لنا ونحن صغار.. وأخيرًا.. تحسين ظروف هذا المعلم المعيشية، حتى يُقبل على أداء مهمته، غير مهمومٍ بلقمة العيش ولا مُكبلًا بضغوط الحياة، وحتى، وهذا هو الأهم، لا ندع له فرصة يفكر عندها فى اللجوء إلى الدروس الخصوصية، لتعويض ما نقص عنه فى لقمة عيشه.. وساعتها لن يجد التلميذ نفسه مضطرًا لتعويض نقص المدرسة بالدروس الخصوصية.. وإلا سنكون كمن يراوح مكانه، يعتقد أنه سار خطواتٍ، والحقيقة أنه ما زال عند موضع قدميه.. امنحوا التجربة وقتها، وللقائمين عليها فرصتهم لتحقيق حلمنا فى تعليم جيد ونافع.. ولنعلم أننا لم نعد نملك رفاهية الوقت.. اللهم إنى بلغت.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.