رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولا تنسوا الفضل بينكم


سيظل التاريخ يذكر خالد محجوب وسيقول إن مرسى أصبح يحاكم على تهمة الهروب من السجن قبل أن يصبح رئيسًا لأن هناك واحدًا من القضاة الفدائيين أجرى تحقيقًا ثبت منه تهمة الهروب

لأن الله سبحانه قال فى كتابه الكريم «ولا تنسوا الفضل بينكم» لذلك سأقول رحم الله الأيام التى مرت بنا بعد أحداث الخامس والعشرين من يناير، فقد علمتنا ما لم نكن نعلمه، وأبهج الله خاطر رجال علمونا وفتحوا أمامنا طريق المعرفة، وما عرفنا ما كنا نجهله إلا من مواقفهم العملية.
طيّب الله أيامك أيها المستشار الجليل خالد محجوب، فحين جلست على منصة القضاء وعُرضت عليك قضية ما، واحدة من مئات القضايا التى تنظرها فى رولها المعتاد، كان المتهم فيها قد قُدم للمحاكمة بتهمة الهروب من السجن، ولأنك أردت أن تستبين الحق من الباطل رأيت أن تحقق دفاع هذا المتهم، فالحق يقتضى هذا، والآية القرآنية تتردد فى قلبك «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»، والأوراق بدأت تفصح عن أشياء، وهذه الأشياء تقترب من رئيس الدولة، ورئيس الدولة ينتمى إلى جماعة فاشية شوفينية لا ترى إلا نفسها ولا يهمها إلا مصلحتها، والمساس به دونه الموت، والطريق إلى تحقيق العدالة محفوف بالمخاطر، كأنك تسير فوق القتاد، فهل تطرد صورة الرئيس من ضميرك وتستمر فى نظر القضية حتى ولو كلفك قرارك هذا حياتك، أم ستغلق هذا الملف وكفاك الله شر القتال؟.
المتهم فى القضية هو واحد من آحاد الناس، ولكنه سحب معه الرئيس الذى قد تهون الدنيا عنده ولا يهون منصبه، الرئيس هو المخلوع محمد مرسى، ولكنه وقتها لم يكن مخلوعًا، بل كان يسعى إلى تثبيت حكمه ولو بالدماء، إذن فليغلق المستشار خالد محجوب عينيه حتى لا يرى إلا أنه ينظر قضية فيها مواطن ما، واقتربت من حياض مواطن ما بغض النظر عن موقعه وخلفيته. هنا العدالة عمياء لا ترى الخصوم ولا صفاتهم أو مكانتهم أو وظائفهم، ولكنها ترى الحق والعدل، الكل عندها سواء. ويقينى أن المستشار خالد لم يفكر وقتها إلا فى الآية القرآنية «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ»، ولعله حرك شفتيه بالآية القرآنية «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، ولكن ما قصة هذه القضية التى فتحت للإخوان أبواب جهنم وفتحت لمصر أبواب الخير، حتى إن المستشار خالد محجوب أصبح مطلوبًا من الإخوان حيًا، والأفضل ميتًا، لأنه كشف ما كان الإخوان يخفونه فى دهاليزهم السرية.
الحقيقة، وأنا أكتب هذه السطور جالسًا فى حجرتى وبين كتبى آمنًا مطمئنًا، وقد لا أستشعر على وجه الدقة وأنا أصوغ كلماتى نفسية المستشار خالد محجوب الوثابة، إلا أننى أستطيع أن أصفه بأنه كان فدائيًا حقيقيًا، فالقضية التى كان ينظرها والقرارات التى كان يصدرها كانت كفيلة بنتائج لا يتصورها أحد، فهو لم يقترب من رئيس مستبد عادى كل ما يملكه هو تلفيق اتهام ما لذلك القاضى العادل، ولكنه اقترب من رئيس بدرجة إرهابى يمتلك جماعة إرهابية لا تعرف إلا القتل والاغتيال، وأنا الآن أكتب فى هدوء أتصور درجة انزعاج أسرة هذا القاضى وخوفها عليه وإلحاحها أن يبحث عن طريق الأمان، فهكذا هو حال أسرنا فى مصر، نخاف على أبنائنا، إلا أننا نحمل فى نفوسنا إعجابًا كبيرًا بمواقفهم البطولية، ولكننى فى ذات الوقت أتخيله وهو يفكر فى قسَم العدالة الذى أقسمه يوم أن التحق بركب العدالة. لا يظن أحدكم أن قرارات هذا القاضى وقتها كانت مجرد مجازفة أو تهور، ولكنها كانت فدائية منقطعة النظير، فهو لا يملك إلا قلمه، والحالة الأمنية فى البلاد وقتها كانت من أضعف ما تكون، وجماعة الإخوان مسعورة من الممكن أن تَعقر أى شخص يقترب منها، والتهديدات كانت تتوالى على هذا الرجل آناء الليل وأطراف النهار، ولكن ماذا تفعل جماعة الإخوان أمام نمط غير عادى من البشر؟!. وأظننى إن التقيته ذات مرة سأسأله: قل لى بالله عليك.. من أنت؟، وما لك لم تخف سطوةً ولا سلطانًا؟، تهابك جماعة إرهابية وأنت الذى لا تحمل فى يدك سوطًا ولا سيفًا!.‍ عرفتُك يا خالد، فأنت ذلك الرجل الذى يستمد سطوته وسلطانه من كلمة الحق ورسالة العدل، فليست السطوة إذن سطوتك، ولكنها سطوة الحق الذى تحمله، وليست السلطة هى سلطة السيف الذى يهابه الناس، ولكنها سلطة العدل الذى تقره بين الرعية، أنت خليفة سلطان العلماء ونجم القضاة «العز بن عبدالسلام»، الذى لم يهب السلطان والأمراء فأصدر حكمه ببطلان سلطانهم وإمارتهم على الناس لأنهم رقيق، فهددوه وساوموه، فلم يخضع لهذا أو لذاك فمضوا إلى حال سبيلهم يجرّون أذيال الخيبة، ومضى قضاؤه على رءوسهم!. وما عدمت مصر العز بن عبدالسلام، وما انقطع عنها أبناؤه، فلم يرد فى التاريخ أبدًا أن العدل والحق خرجا من مصر، ولن يخرجا، لذلك سيظل التاريخ يذكر خالد محجوب، وسيقول إن مرسى أصبح يحاكم على تهمة الهروب من السجن قبل أن يصبح رئيسًا، لأن هناك واحدًا من القضاة الفدائيين أجرى تحقيقًا ثبت منه تهمة الهروب، ولكن ما قصة تلك القضية؟.
كانت المباحث الجنائية فى الإسماعيلية قد قبضت على مواطن كان محبوسًا فى سجن وادى النطرون قبل ثورة يناير، وفى بداية الثورة حدث أن هرب هذا المواطن من السجن، فقدمته النيابة العامة للمحاكمة بتهمة الهروب من السجن وهى جريمة لها عقوبة جنائية، وعندما عُرضت القضية فيما بعد على محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية التى يرأسها المستشار خالد محجوب أبدى دفاع المتهم دفوعًا قانونية وموضوعية قال فيها إن المتهم لم يهرب ولكنه وجد نفسه خارج السجن بعد أن اقتحمت مجموعات عصابية أسوار السجن وأخرجت المحبوسين!. وكان من ضمن الهاربين محمد مرسى وزمرة من عصبته، فرأى المستشار خالد أن يحقق هذا الدفاع ويستدعى الشهود لإثبات صحة أو عدم صحة ما يدعيه هذا المتهم.
كانت هذه القضية قد بدأت وقائعها فى عهد محمد مرسى، فهو الرئيس، ومصر تحت إدارة جماعته، وما إن تطرق الأمر لمحمد مرسى وهروبه من سجن وادى النطرون حتى تحركت الدنيا صوب مدينة الإسماعيلية، فتلقى القاضى خالد محجوب تهديدات بالقتل من أعضاء بمكتب إرشاد جماعة الإخوان، وكان من ضمن رسائل التهديد ذلك الخطاب الذى ألقوه من تحت عقب باب منزله، نصه: «احذر وخَفْ على أولادك»، ولكنه استمر وكشف لمصر جرائمهم وقامت ثورة يونيو وكتب التاريخ فى سجل العظماء اسم خالد محجوب.