د. محمود خليل يكتب: قنصوه الغوري.. السلطان الحائر في مواجهة ابن عثمان
- فى عهد الغورى انتشرت ظاهرة تحرش المماليك الجلبان بجميلات القاهرة فاضطر السلطان إلى منع نساء العاصمة من النزول إلى الشوارع
- عندما علم السلطان بانكسار جنوده أمام جيش ابن عثمان أصيب بجلطة وسقط من فوق فرسه لتدهسه الخيل
كما تحدد الأقدار البدايات فإنها تتدخل أيضًا فى رسم النهايات. ذلك ملخص رحلة السلطان «قنصوه الغورى» مع عرش مصر، وأيضًا ملخص رحلة الدولة المملوكية فى الحكم، حين باغتتها الدولة العثمانية وتمكنت من إسقاطها داخل الشام (١٥١٦)، وكذلك فى مصر (١٥١٧). قذفت الأقدار بالسلطان الغورى إلى سدة الحكم فى نهايات دولة الجراكسة، وبعد أن بلغ من الكبر عتيًا (٦٠ عامًا). دولة شائخة وحاكم شاخ فى موقعه كأمير مملوكى. لم يكن «الغورى» يحلم بالحكم، لكنه وجد نفسه فجأة فى الصدارة. تمثلت أبرز مظاهر شيخوخة الدولة فى اختلال الأمن واشتعال الصراعات السياسية وانطفاء قدرة رجال الحكم على معالجة المشكلات الاقتصادية، واعتمادهم بشكل كامل على آليات الجباية فى سد احتياجات الدولة والجيش، أما معالم شيخوخة الحاكم فقد تمثلت فى فقد السيطرة على فرق المماليك، ووهنه فى كبح جماحهم، ومنعهم من ظلم الأهالى، واضطراره إلى تقديم الرشوة إثر الأخرى لهم حتى يشاركوه الدفاع عن البلاد ضد العدو المتربص بها. على الجهة المقابلة للشام كان جنود سليم شاه «العثمانية» يسيطرون على العراق، ويواصلون الزحف، ليصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الشام الجناح الثانى للدولة المصرية المملوكية، ويعجز نواب السلطان الغورى عن مواجهتهم فتسقط بعض نواحى حلب فى أيديهم. لم يكن سليم شاه شخصية سهلة، فهو تركى عتيد لا يجنح إلى المواجهات المباشرة قبل أن يخادع عدوه ويموه عليه. وكذلك فعل مع السلطان «الغورى» فأرسل إليه الرسالة تلو الأخرى يخاطبه فيها بلقب «والدى»، ويعبر له عن رغبته فى الصلح، فى وقت كان يعد فيه العدة للقتال. وفى اللحظة التى تأكد فيها السلطان الغورى من «لؤم التركى» قرر المواجهة فى مرج دابق ليلقى الهزيمة التى مهدت لدخول الأتراك إلى مصر. لم يواجه «الغورى» سليم شاه وجنوده فقط، بل واجه أيضا المماليك الذين انسحبوا من حوله وتركوا المعركة، بالإضافة إلى موالسة بعض أمرائهم عليه مع التركى اللئيم. سقط «الغورى» من فوق فرسه بعد أن دهمته «جلطة» مفاجئة، ليلقى حتفه تحت حوافر الخيل.
المماليك أجلسوه على العرش وهو يبكى.. ولم يتوقع استمراره فى الحكم
كانت دولة دنت ساعتها وحانت نهايتها. إنها الدولة المملوكية فى مصر والشام أيام قنصوه الغورى التى انتهت رسميا بغزو الأتراك العثمانيين للشام ثم مصر، ليصبحا جزءا من السلطنة العثمانية. تولى قنصوه الغورى الحكم عام (١٥٠١م) فى ظروف شديدة الإثارة. يقول ابن إياس فى «بدائع الزهور» فى تعريفه للغورى «هو الملك الأشرف أبو النصر قنصوه بن بيبيردى الغورى الأشرفى. وهو السادس والأربعون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، وهو العشرون من ملوك الجراكسة وأولادهم فى العدد». تولى الغورى الحكم فى ظروف وكذا فى سن عجيبة قياسًا إلى ظروف عصره. فقد اعتلى السلطة بعد اغتيال السلطان العادل طومان باى بن قنصوه أبوالنصر الأشرفى قايتباى (وهو غير السلطان طومان باى الذى تولى حكم مصر بعد مقتل السلطان الغورى)، وكانت فرق المماليك وشراذمهم عاجزة عن اختيار من يتسلطن على الديار المصرية، بسبب احتدام المنافسة فيما بينهم، وفجأة طرح اسم «الغورى» أمامهم فصرخ أحدهم: لا سلطان إلا هذا. رفض الغورى أن يلى الأمر ويتحمل المسئولية فسحبه المماليك وأجلسوه على كرسى السلطنة وهو يبكى. نظر الجميع إليه على أنه لن يمكث فى الحكم طويلا، وأنه تاركه عما قريب، إما على يد طائفة من المماليك المتصارعة فى البلاد، أو بحكم السن، فقد تسلطن «الغورى» وله من العمر ٦٠ عامًا، على غير سنن عصره، لكن العجيب أنه عمّر فى الحكم طويلا ومكث فيه ما يقرب من ١٦ عامًا كاملة، وشاء الله أن تختتم على يديه رحلة الدولة الجركسية فى الحكم، حين تمكن السلطان سليم شاه (سليم الأول) من احتلال كل من مصر والشام.
شهدت فترة حكم السلطان «الغورى» صراعات مريرة بين المماليك تسببت فى العديد من الأزمات السياسية والأمنية. كان المماليك فى ذلك العصر موزعين على ٣ أحزاب رئيسية: حزب «الخاصكية» وهم المماليك التابعون للسلطان وكان يختارهم على عينه، ولست بحاجة إلى الحديث عن رفعة قدرهم بحكم اقترابهم من السلطان. وحزب «القرانصة» وهم مماليك السلاطين القدامى الذين غادورا الحياة، وامتاز هذا الحزب بكثرة عدده وتنوع فرقه وقوة شوكته. وحزب المماليك «السيفية» وهم مماليك الأمراء الذين توفوا أو قتلوا. ووسط هؤلاء وجدت قوة أخرى متشعبة وغير منظمة تمثلت فى المماليك الجلبان، لم يكن لهم يافطة محددة يندرجون تحتها، وأغلبهم وفد إلى البلاد بصورة غير رسمية (ليس من خلال أحد الأمراء أو السلاطين) وتكاثر عددهم فى عهد الدولة الجركسية التى أسسها السلطان «برقوق» وأصبحوا بمرور السنوات مصدر تهديد لأى سلطان يحكم، إذ كان ولاؤهم الأول لمصالحهم وما يمكن حصده من أموال وأسلاب من الأهالى سواء بإرادة السلطان أو بغير إرادته. وكان من السهل جدا على طائفة «الجلبان» التخلى عن قيادتهم فى أشد اللحظات خطورة، بما فى ذلك لحظة المواجهة العسكرية مع العدو.
استفحل أمر المماليك الجلبان وكثرت ثوراتهم فى عهد السلطان الغورى، وكانوا سببًا مباشرًا فى اختلال الأوضاع الأمنية فى دولته، فقد احترفوا مهاجمة بيوت الأمراء، والضغط على الأهالى من أجل جمع الأموال، دون أن يتمكن أحد من إيقافهم. كثرت شكوى الناس من أفعالهم، خصوصا النساء اللائى كن يتعرضن لاعتداءات مستمرة من جانبهم، حتى اضطر السلطان إلى منع جميلات القاهرة من النزول، خصوصا أيام الأعياد، حتى لا يتعرضن للتحرش من جانب المماليك «الجلبان». لم يعد أمير يطمئن على داره، أو رجل من العوام على رزقه وماله، أو امرأة على عرضها. واختلت الأوضاع السياسية بالتوازى مع اختلال الأوضاع الأمنية، وبلغ الأمر حد أن ترك السلطان الغورى السلطنة، ونفض عن ظهره خلعتها، وذهب ليعتزل الناس والأمراء لعدة أيام بقيت فيها مصر فعليا بلا سلطان!. أما الأوضاع الاقتصادية فحدث عنها ولا حرج، فقد اضطر الغورى إلى تحصيل الضرائب من الناس مقدمًا ولعدة شهور حتى يتمكن من جمع المال اللازم لإسكات المماليك المطالبين برواتبهم ومخصصاتهم الشهرية.
صدّق أن سليم شاه يريد الصلح معه.. نسى الرءوس المقطوعة لحاكم حلب وابنه.. وأوصى طومان باى بالرعية حين اقتربت النهاية
نحن الآن فى عام ١٥١٥.. الأخبار تتدفق إلى القاهرة بانكسار إسماعيل الصفوى أمام جيوش سليم شاه وسقوط العراق، وهو ما أصاب السلطان الغورى بحالة من الهم والغم والكرب والعظيم. يقول «ابن إياس»: «فى يوم الأربعاء ١٤ ربيع الأول أشيع بين الناس أنه فى ذلك اليوم حضر هجان من البلاد الحلبية وأخبر أن سليم شاه بن عثمان مشى على شاه إسماعيل الصفوى ملك العراقين، فلما بلغ على دولات أن طائفة من عسكر بنى عثمان قد قربت من بلاده خرج إليها وتحارب معها فانكسرت تلك الطائفة اليسيرة التى من عسكر ابن عثمان وقتل منهم جماعة ونهب على دولات ما معهم، فعند ذلك طمع على دولات فى عسكر ابن عثمان، فلما بلغ سليم شاه ذلك أرسل إلى على دولات عسكرا ثقيلا نحو ثلاثين ألف مقاتل على ما قيل فتحاربوا مع على دولات وكسروه، وقتل على دولات وولده فى المعركة، وحزوا رأسيهما». الخطر الآن أصبح داخل الشام الجناح الثانى من الدولة التى يحكمها من مصر.
بمرور الوقت وقع المحظور وإذا بقاصد (رسول) من طرف سليم شاه يقف فوق رأس السلطان قنصوه الغورى، صانعا مشهدا دراميا من طراز رفيع. يقول «ابن إياس»: «لما حضر قاصد سليم شاه إلى القلعة جلس السلطان فى الحوش على المصطبة، فلما مثل بين يديه أحضر صحبته رأس على دولات ورأس ولده ورأس وزيره وهى فى علبة، فلما أحضروا تلك الرءوس بين يدى السلطان شق عليه ذلك». اضطرب السلطان والأمراء من حوله اضطرابا شديدا جراء هذا المشهد. أصيب الغورى بوعكة صحية وأصبح لا ينزل من القلعة فصعد إليه الأمراء ليبحثوا معه الأمر. الاستسلام كان واضحا عليهم، فقالوا للسلطان إن «ابن عثمان» استولى على غالب البلاد الحلبية وإن الرعية استسلمت له، بل رضيت بحكمه بسبب ما اشتهر به من عدل. وفى ظل هذا الجو المتأزم من حول السلطان الغورى اشتدت فتن المماليك الجلبان، ما عقّد الموقف أكثر.
دخل عام ١٥١٦، ولم يعد أمام السلطان بد من التحرك لمقابلة عسكر سليم شاه فى الشام. وبمرور الوقت تحقق أمر خروج التجريدة، وبدأ السلطان يصرف لعساكره نفقة السفر، فأنفق على كل مملوك ١٠٠ دينار وراتب ٤ أشهر مقدمًا وثمن جمل ٧ دنانير. وأعلن السلطان عن نيته الخروج بالجيش خلال أيام فاضطربت أحوال القاهرة واضطربت الأسواق وشحت الأرزاق. سار السلطان بعساكره إلى الريدانية وضرب خيامه بها. يقول ابن إياس: «فلما كان يوم السبت ١٥ ربيع الآخر خرج السلطان قنصوه الغورى إلى البلاد الشامية والحلبية». وبينما كان السلطان فى الطريق حدثت واقعة عجيبة فقد استقبل الغورى رسالة رقيقة من سليم شاه يقول فيها: «أنت والدى وأسألك الدعاء وإنى ما زحفت على بلاد على دولات إلا بإذنك وإن كان باغيا علىّ، وأما ابن سوار الذى ولى مكانه فإن حسن ببالكم أن تبقوه على بلاد أبيه أو تولوا غيره فالأمر راجع إليكم، وإن البلاد التى أخذناها من على دولات أعيدها لكم وجميع ما ترومونه ويريده السلطان فعلناه». فرح السلطان ومن حوله من الأمراء بهذه الرسالة ومنوا أنفسهم بالصلح والعودة إلى مصر. ولم يكن الأمر أكثر من خدعة من جانب سليم شاه.
حط السلطان رحاله فى غزة واستقبله نائبه عليها «دولات باى» استقبالًا حافلًا، ومنها تحرك إلى دمشق فلاقاه الأمير سيباى نائبه عليها ودخل فى موكب حافل، وأخذ ينثر الذهب والفضة عى رءوس المشاركين، وتزاحم عليه المماليك حتى كاد يسقط من فوق فرسه، وكان موكبه واحدا من المواكب المشهودة بدمشق، ومن حلب تحرك السلطان إلى حمص ومنها إلى حماة. وعندما استقر فى حلب أرسل له سليم شاه مندوبين يتحدثان معه، وقالا له: «إن أستاذنا فوض لنا أمر الصلح، وقال كل ما اختاره السلطان افعلوه ولا تشاورونى». وكان كل ذلك، كما يذكر «ابن إياس»: «يمثل حيلًا وخداعًا حتى تبطل همة السلطان عن القتال وينثنى عزمه عن ذلك». كانت سن السلطان الغورى فى ذلك التوقيت تقترب من ٧٥ عامًا، والواضح أن السن لم تكسبه الخبرة المطلوبة، بل ولّدت لديه نوعا من الطيبة والرغبة فى إيثار السلامة والبعد عن الدخول فى معارك ما أمكنه ذلك، لذا فقد تعامل بالتصديق مع رسائل الخداع العثمانى، لأنه- فى داخله- لم يكن يتمنى الحرب أو يميل إليها، وعلينا ألا نغفل أن هذا الإحساس لدى السلطان كان يتعمق كلما نظر إلى أمرائه وعساكره الباحثين عن المصالح والمؤثرين السلامة.
وصلت أخبار مؤكدة إلى السلطان الغورى أن ابن عثمان يتجه إليه، وأن كل رسائله كانت خدعة ليس أكثر. هنالك أعطى أوامره للعسكر بالرحيل من حلب والنزول على جيلان لقتال الباغى «ابن عثمان» وأن السلطان والأمراء عما قريب يخرجون إلى القتال، واختتم أمر التوجيه بقوله «والذى يريده الله هو الذى يكون». أرسل الغورى إلى نائبه فى مصر «طومان باى» وصية مكتوبة يوصيه فيها بالرعية، ويوجهه فيها إلى كف المماليك الجلبان عن أذى الناس، ومراجعة أوضاع كل من بالسجون والإفراج الفورى عن المدينين (الغارمين)، ولا يترك بالحبوس غير أصحاب الجرائم ممن عليهم دم، وأرسل السلام إلى الأمراء والعسكر قاطبة. بدا السلطان وكأنه يصلى «صلاة مودع».
أصيب بحالة دروشة.. حشد أمام الجيش حملة المصاحف والفقراء وأبناء الطرق الصوفية.. وواجه السيوف بالدعاء فكانت الهزيمة
انقطعت أخبار السلطان قنصوه الغورى وجيشه مدة طويلة، وضرب القلق نائبه بالقاهرة، وعمت المدينة حالة من الذعر والاضطراب، وبعدها وصلت أخبار تفصيلية بما حدث. قيل إن السلطان الغورى أخذ يبعث برسله إلى سليم شاه لإبرام الصلح، لكن ابن عثمان أبى وقال لرسول الغورى: «قل لأستاذك يلاقينا على مرج دابق». ليس ذلك فقط بل إن سليم شاه وضع رسول الغورى فى الحديد، وقصد أن يحلق لحيته وقدمه إلى الشنق ثلاث مرات فشفع فيه بعض وزرائه، وقاسى منه الهوان والأهوال. عاد الرسول إلى السلطان الغورى وهو على تلك الحال فاغتم وشعر بالكرب المحيط به. لم يكن هناك بد من التحرك، وهو ما فعله السلطان، فتوجه إلى جيلان ومنها إلى مرج دابق، وأخذ يرتب العساكر بنفسه. ويذكر «ابن إياس» أنه «كان حول السلطان أربعون مصحفا فى أكياس حرير أصفر وعلى رءوس جماعة أشراف وفيها مصحف بخط الإمام عثمان بن عفان رضى الله عنه. وكان حول السلطان جماعة من الفقراء وهم خليفة سيدى أحمد البدوى ومعه أعلام، والسادة الأشراف القادرية ومعهم أعلام خضر، وخليفة سيدى أحمد الرفاعى ومعه أعلام». جانب الدروشة كان واضحا فى شخصية السلطان الغورى، فهو يتبرك بالمصاحف ويصطحب معه الأشراف والفقراء من أتباع الطرق الصوفية، قناعة منه بأن كل هذه الأدوات قادرة على دفع الأذى عنه، ومستجلبة لرحمة الله، وغير ذلك من أفكار.
بدأ القتال وكان أول من تصدر الصفوف المماليك القرانصة (مماليك السلاطين السابقون) فأبلوا بلاء حسنا وكسروا عسكر «ابن عثمان» كسرة منكرة، فهمّ سليم شاه بالهروب وطلب الأمان، وقد قتل من عسكره فوق الـ١٠ آلاف إنسان. ولما لاحظ السلطان الغورى الأداء القتالى الرفيع للمماليك القرانصة طلب من المماليك الجلبان الابتعاد عن المشهد وعدم المشاركة فى القتال. لم يفهم «القرانصة» أن السلطان خشى من أن يؤدى دخول «الجلبان» فى القتال إلى اختلال الأمر، بل فهموا أنه يقذف بهم إلى مذبحة لكى يتخلص منهم فارتخى عزمهم وضعفت إرادتهم. كانت تلك أولى خطوات الهزيمة، أعقبتها خطوة أخرى قام بها الأمير خاير بك الذى ظهر أنه كان موالسًا على السلطان الغورى ومتواطئًا مع سليم شاه، ففر من المعركة فجأة، ومن ورائه فر عدد آخر من الأمراء. صار السلطان الغورى واقفًا مع عدد قليل من المماليك فشرع ينادى: «يا أغوات هذا وقت المروءة. هذا وقت النجدة فلم يسمع له أحد قولا وصاروا يتسحبون من حوله». توجه «الغورى» إلى الفقراء وأخذ يقول لهم: «ادعوا الله تبارك وتعالى بالنصر فهذا وقت دعائكم» وصار لا يجد له معينًا.
كان يوم المعركة شديد الحر، كثيف الغبار. يصفه «ابن إياس» قائلا: «كان نهار غضب من الله تعالى قد انصب على عسكر مصر، وغلت أيديهم عن القتال، وشخصت منهم الأبصار». ركب عسكر «ابن عثمان» الموقف، وهرول الأمير تمر الزردكاش إلى السلطان وقال له: «يا مولانا السلطان، إن عسكر ابن عثمان قد أدركنا فانج بنفسك وادخل حلب». فلما تحقق السلطان من ذلك غلبه فى الحال خلط الفالج (الشلل نتيجة جلطة). أصيب السلطان بجلطة مفاجئة، وارتخت شفته، ولم يعد قادرا على التحكم فى فمه ولسانه، طلب ماء فجىء له به، فشرب منه قليلا، ثم لوى عنق فرسه يريد الهرب والعودة إلى حلب، ولم يسر به الفرس سوى متر أو مترين وإذا بتوازنه يختل ويقع من فوق الفرس، وإن هى إلا دقائق حتى وافته المنية ففاضت روحه.
يقول «ابن إياس»: «ومن حين مات السلطان لم يعلم له خبر، ولا وقف له على أثر، ولا ظهرت جثته بين القتلى، فكأن الأرض قد ابتلعته فى الحال، وفى ذلك عبرة لمن اعتبر. فداس العثمانية وطاق الغورى بما فيه من الأمتعة والأرزاق التى كانت حوله بأرجل الخيول، وفقد المصحف العثمانى، وداسوا أعلام الفقراء وصناجق الأمراء، ووقع النهب فى أرزاق عسكر مصر، وزال ملك الأشرف الغورى فى لمح البصر، فكأنه لم يكن، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتغير». هكذا انتهت حياة السلطان قنصوه الغورى بعد أن مكث فى حكم مصر والشام ١٦ عامًا كاملة.