رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خديجة.. عرّابة الإسلام


تمنيت على الله إن أذن لى بزيارة بلده الحرام، أن يتيح لى زيارة قبر السيدة خديجة.
دونًا عن كل النساء أو الرجال، تبدو السيدة خديجة صاحبة الأيادى البيضاء على الإسلام، فهى أعطت وفدت، ورد الله لها خير الجزاء.
منذ رأت خديجة الشاب الهاشمى انتابها شعور بأنه يحمل سرًا، كنزًا، وأن باطنه أعمق من ظاهره، كان لديها من العزة والشرف والغنى ما يكفى، وما كانت تبحث عن مال أو جاه، فهل كانت تبحث عن نبى؟، وما الذى منحه الأنبياء لأتباعهم؟ التعذيب، الاضطهاد، ليس من بين الأنبياء ملك إلا داوود وسليمان، النبوة ليست للملك، كأنه لم يكن يكفيها أن يقال عنها سيدة قريش، أو الطاهرة، كانت روحها تواقة لما هو أسمى.
ربما لم تكن هذه المعانى متبلورة فى ذهنها، لكن الحكايات التى كانت تسمعها من ابن عمها عن نبى آخر الزمان، الذى آن أوانه وسيظهر فى بلاد العرب، جعلتها تتمنى أن تكون من أتباعه.
وعندما عاد إليها أبوالقاسم من غار حراء جزعًا مهرولًا هاتفًا زملونى.. زملونى، تلقته الحكيمة البصيرة وبثت فيه من قوتها: «أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكَلّ وتُقرى الضيف وتعين على نوائب الحق».
وحين يحاصر أهل مكة المسلمين فى شعب أبى طالب، تترك الحسيبة وثير فراشها ورفاهية عيشها وتصاحب زوجها إلى حيث المشقة والجهد والجوع، وتستعين بمالها بقدر ما تفلت عيون الرقباء لتؤمن بعض طعام يسد جوع المسلمين.
لذا ليس من المدهش أن ينتفض المحب من انتقاص قدر محبوبه ويقول: «لا والله ما أبدلنى الله خيرًا منها، آمنت بى حين كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس، وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى منها الله الولد دون غيرها من النساء».
وتدور الأيام.. وترتجف الأرض لوطأة عشرة آلاف قدم، يعود المستضعفون فى الأرض وقد مكن لهم ربهم دينهم الذى ارتضى لهم. تشرق روحك وتتمنين لو أن الجسد يرتدى حلته وتقومين للقاء الحبيب. ولأنك صاحبة البصيرة النافذة، وعرابة المتحققين الذين لا ينغص منجزهم كدر، فلا عجب أن يكون كل ما يدور فى خاطرك حقيقة، تعاجلك خطوات تعرفينها، لا تكاد تمس ظاهر الأرض من فرط رهافتها، ويكاد باطن الأرض يميد من أثر قوتها ويأتيك من خلف الحجب أريج عطر، كنت أول من استنشقه، ترهفين سمعك، تتابعينها، أتى؟ لمن؟ تعرفين لمن أتى، لكنه الرجاء، الشوق، الانتظار، تستكين الخطوات بجوارك، وتمتد يد طالما قبلتها وربت عليها حانية ومؤازرة، ترتفع الأصوات الله أكبر والحمد لله كثيرًا، حماسة الأنفاس تعيدك لوحشة الساعات تقضينها وهو غائب فى غار حراء.. وعندما يعود تتلقين وحيه، بيقين راسخ، وتكونين أول المسلمين، ويقوم الدين الجديد وليدًا تتولينه بالرعاية وتحيطين رسوله بالحماية والسلام، لم تكونى فقط زوجة، بل كنت الأم والرفيق والصاحب والوزير، قمت معه فى كل الحالات بمقتضى الحال، وأفاض الله عليك تحنانًا لهذا الحبيب، جعلك تتمنين أن يمتد بك العمر، من أجل أن تبقى معه، وتقومى برعايته والذود عنه.. فى ليلتك الأخيرة فوق الأرض، تنتظرين عودته، لهفة صوته بالنداء عليك خديجة، خديجة، احتبس اسمك فى لسانه، كان يعرف أنك لن تستطيعى تلبية النداء، فتمهل قبل أن يطل عليك، ونطق بصوت مخنوق «بالكره منى ما أرى منك يا خديجة وقد جعل الله من الكره خيرًا».
وكان لك كل الخير وسلام يبعثه رب العالمين إليك يحمله جبريل إلى الحبيب، فتنطقين بحكمة وأدب العارفين: «إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام، ورحمة الله وبركاته».
تلمسين أكفانك.. الكفن الملاصق لك ثوب محمد الذى كان يرتديه عند نزول الوحى، والثانى كفن من أكفان الجنة هبط به الأمين جبريل وقال: يا رسول الله، إنّ الله يقرئك السلام ويخصّك بالتحية والإكرام ويقول لك: يا محمّد إنّ كفن خديجة من عندنا، فإنّها بذلت مالها فى سبيلنا. ولم تكن وحشة القبر ما كنت تخشين حين طلبت منه أن يكفنك فى ردائه، وقد بشرك الله بِبَيْتٍ فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ»، لكنها وحشة النسيان.
تلمس اليد المحبة جدران قبرك فتذوب الفواصل وتنمحى الحجب، فترين الراية المنصوبة، والوجه المشرق يخبرك أنه عاد، وأن الله لن يخزيك أبدًا. إيه خديجة.. أى ملكوت يحتويك، وقد اختار حبيبك جوارك دون كل جوار، فطوبى لمن تتغير الأوقات ويستقيم وقتهم.