رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حضرة المحترم.. قصة عدلى منصور.. المقاتل الصامت

جريدة الدستور

هذا رجل سيتوقف التاريخ أمامه كثيرًا، ألقت به الأقدار فى قلب العاصفة دون سابق إنذار، فصمد وقاوم حتى وصل بالسفينة إلى بر الأمان. لم يذق المستشار عدلى منصور، الرئيس السابق، النوم أيامًا كثيرة بعد دخوله قصر الاتحادية، كانت الهجمة الدولية على مصر متجاوزة بأكثر مما ينبغى، وكان عليه أن يبقى متيقظًا يتابع ويوجه، ففى عنقه ما يربو على ١٠٠ مليون إنسان. أدى الرجل مهمته باقتدار، لم يتورط فى «وحل السياسة» ودهاليزها، دخل القصر وخرج منه مكرمًا، وهذه ليست عادة مصرية على الإطلاق.
لكن هذه الشخصية لم تولد على هذه الحالة، بل هذه مسيرة حياة من موظف بإحدى شركات قطاع الأعمال إلى مندوب مساعد بمجلس الدولة وبعدهما محطات كثيرة أوصلته إلى رئاسة المحكمة الدستورية العليا.
أما كيف كانت هذه الرحلة ومن هم أبطالها.. فهذا ما نحاول أن نقترب منه هنا.


والده تُوفى وهو فى عمر الـ١٣.. وأنهى الابتدائية من الصف الرابع
فى ٢٣ ديسمبر ١٩٤٥، ولد المستشار عدلى محمود منصور، وهو من أسرة بسيطة ترجع جذورها إلى الريف والصعيد، فالأب «الشيخ محمود منصور»، العالم الأزهرى الذى يعمل فى وزارة الأوقاف، من محافظة المنوفية، والأم من بنى سويف.
تفوق «منصور» فى الابتدائية- كان يدرس فى مدرسة السلاح الابتدائية- أهله لدخول امتحان شهادة المرحلة عندما كان فى الصف الرابع، ليلتحق بمدرسة الحلمية الجديدة الإعدادية وهو فى سن ١٠ سنوات فقط، قبل أن يتوفى والده وهو فى سن الـ١٣.
وبرع رئيس الجمهورية السابق فى اللغة العربية منذ صغره، حتى إنه اختير لإلقاء كلمة فى وداع مدرس بـ«الحلمية الإعدادية» بعد نقله لإحدى المدارس الأخرى، وبسبب ازدحام الحفل بكلمات مسئولى المدرسة تجاهل الحاضرون كلمته، إلا أنه أصر على إلقائها وكان إصراره دافعًا لناظر المدرسة على أن يلقى التلميذ كلمته التى أدمت أعين الحضور من بلاغتها.
وبعد إنهائه المرحلة الثانوية بنجاح، التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، حيث حصل على «الليسانس» عام ١٩٦٧، وتسببت «نكسة يونيو» فى تأجيل امتحانه لمادتين، كما سببت له حزنًا فحصل على تقدير «جيد مرتفع» بنسبة ٧٤٪، الأقل بقليل من «جيد جدّا».
دبلوم الدراسات العليا فى القانون العام من كلية الحقوق بجامعة القاهرة كان نجاحه التالى، وتحديدًا عام ١٩٦٩، قبل أن يحصل على دبلوم الدراسات العليا فى العلوم الإدارية من الكلية ذاتها عام ١٩٧٠.
وكعادة أبناء هذا الجيل انتظر «جواب القوى العاملة»، الذى جاءه بالفعل وألحقه للعمل بإحدى شركات القطاع العام، لكنه كان لا يرى نفسه إلا جالسًا على منصة القضاء، فتقدم للعمل بالنيابة العامة، لكنه لم يوفق.
كان من حسن حظه أن أعلن مجلس الدولة حاجته لتعيين مندوبين مساعدين، فخاض فى يناير ١٩٧٠ امتحانًا تحريريًا بكلية الحقوق جامعة القاهرة، واحتل المركز الأول ضمن ١٠ أفراد اختيروا للتعيين بالمجلس.
ولخلاف بين رئيس مجلس الدولة شلبى يوسف ووزير العدل تأخر تعيين العشرة فائزين، ومع إصرار «شلبى» عُين صاحب المركز الأول فقط «عدلى منصور»، الذى سرعان ما اكتسب شهرة كبيرة كقاضٍ جليل، الأمر الذى دفع العديد من المؤسسات للاستعانة به على سبيل الانتداب، مثل وزارة الخارجية، والأمانة التشريعية لمجلس الوزراء، والمركز القومى للبحوث، حتى عضويته فى إدارة الفتوى والتشريع برئاسة الجمهورية والمحافظات عام ١٩٧٠.
اختاره الفقيه الدستورى عوض المر، رئيس المحكمة الدستورية الأسبق، قاضيا بالمحكمة، وشارك فى العديد من الأحكام الشهيرة، فترأس جلسات الاستماع الدستورية عام ٢٠١٢ التى ألغت قانون «العزل السياسى» الذى يحظر على أعضاء نظام «مبارك» خوض الانتخابات. من بين الأحكام الأخرى التى أصدرها، تطبيق مبدأ «الرقابة السابقة على قانون الانتخابات الرئاسية»، وتحديد اشتراطات بدء الحملة الانتخابية للمرشحين الرئاسيين، وعدم دستورية حظر تولى أعضاء لجنة الانتخابات الرئاسية مناصب قيادية تنفيذية. وفى ١٩ مايو ٢٠١٣، وافقت الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا على تعيين المستشار عدلى منصور، النائب الأول لرئيس المحكمة آنذاك، رئيسًا لها، خلفا للمستشار ماهر البحيرى.
وبعد البيان الذى ألقاه الفريق أول عبدالفتاح السيسى-وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة آنذاك- مساء الأربعاء ٣ يوليو ٢٠١٣، والذى جاء فيه تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت وتولى رئيس المحكمة الدستورية إدارة شئون البلاد لمرحلة انتقالية، تولى «منصور» رئاسة جمهورية مصر العربية.

كان شديد الارتباط بوالدته.. ولديه بنتان وولد أكبرهم ياسمين
ارتبط المستشار عدلى منصور بعلاقة وثيقة بوالدته قبل رحيلها، وكان دائم الزيارة لها فى «الطالبية» بالجيزة حتى بعد توليه منصب الرئاسة، ففى فبراير ٢٠١٦- قبل وفاة والدته بـ١٠ أشهر فى ديسمبر ٢٠١٦- ذهب ضمن «موكب رئاسى» إلى منزل والدته بـ«أريزونا» بالمنطقة الشعبية. وتبين حينها أن حرمه سبقته إلى منزل العائلة بحوالى ربع ساعة، واستغرقت الزيارة حوالى ٥٥ دقيقة، ولاقى أثناء انصرافه ترحيبًا هائلًا من الأهالى الذين حيوه بطريقة لافتة.
وتربط «منصور» علاقات وثيقة مع جيرانه فى «الطالبية»، وكان يعاملهم بلطف، ووفق «أبويوسف»، بائع هناك، فإن «الرئيس مشهور بالطيبة وتواضع الخلق، وكان يأكل فول من يدىّ طيلة فترة وجودة هنا»، مضيفًا: «الإجراءات الأمنية كانت عادية، وحرس الرئيس لم يطلب من أحد غلق المحال بطلب من الرئيس نفسه»، فى إشارة للزيارة سالفة الذكر. وبالرغم من شموخه كقاضٍ ورئيس ورجل دولة، إلا أنه لم يتمكن من إخفاء دموعه فى أكثر من موقف، من بينها إمامته صلاة الجنازة على والدته، وعندما غنى أحد الأطفال أغنية «ابن الشهيد» فى احتفالات النصر وقت وجوده رئيسًا.
وللمستشار عدلى منصور بنتان وولد، الابنة الكبرى «ياسمين» التى تخرجت فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة «كلية الهندسة»، وهى أقرب أبنائه إلى قلبه باعتبارها «البِكرية»، ورزق بها عندما كان مستشارًا بمجلس الدولة.
«بسنت» هى البنت الثانية لـ«منصور»، تخرجت أيضًا فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة «الاقتصاد والعلوم السياسية»، أما «أحمد» فهو خريج الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، وعمل لفترة بدولة الإمارات.
أبناء الرئيس السابق على درجة عالية من التواضع واحترام الصغير قبل الكبير، نتيجة تربية والدهم المستشار الذى تخلق بأدب القضاة ومعاملة الجميع سواسية دون تفرقة. وفيما يتعلق بفترة عمله فى السعودية، عاش «منصور» طيلة إقامته فى المملكة وحيدًا، دون أن يحضر معه زوجته وبقية أفراد أسرته، لانغماسه فى عمله، وتركيزه على الإجادة فيه، وكان «يتلذذ بتناول الأكلات المحلية، كالجريش والمرقوق والمطازيز»، حسبما كشف أحد مرافقيه، الذى قال: «الكبسة تأتى فى طليعة الأطعمة المفضلة لديه».

يسمع أم كلثوم ومحمد طه.. يقرأ لـ«هيكل».. وينتقد تدهور الفن
الموسيقى بالنسبة للمستشار عدلى منصور غذاء الروح، وهو يحب سماع أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، فضلًا عن مشاهدته الأفلام القديمة التى تذكره بالزمن الجميل. ويعشق الرئيس السابق الفنان الشعبى محمد طه، صاحب الـ١٠ آلاف موال دون إعداد سابق، إذ كان يؤلف ويلحن ويغنى، وصاحب فرقة موسيقية وشركة أسطوانات، ويغنى على مقاهى «الحسين» و«السيدة زينب».
وقالت الفنانة أنغام عن «منصور»، فى أحد البرامج التليفزيونية: «أنا بحب عدلى منصور جدًا، وسأفتقده فعلًا، وتشرفت بمصافحته فى إحدى الحفلات»، موجهة الشكر له على مساهمته فى إعادة الفن لمكانته بعد حكم «الإخوان». وسبق أن وجه «منصور» انتقادًا للأوضاع الحالية للفن، وتساءل: «أين السينما المصرية ودروسها الأخلاقية فى السلوك واللغة والحوار؟ أين الغناء المصرى الراقى؟ أين رموز الثقافة والفكر فى بلادنا؟»، مضيفًا: «القوى الناعمة هى ثروتنا الحقيقية وسر تفوق هذا الشعب، والذى لا بد من استرداده مهما كان الثمن». وهو من قراء محمد حسنين هيكل، فكان من صغره يقرأ لـ«الأستاذ» مقاله فى جريدة «الأهرام»، ويرى أنه «له أسلوب متميز وحصيلة من التجارب الإنسانية»، واصفًا إياه بأنه «علم كبير وأستاذ فى عالم الصحافة وصنع من الأهرام مدرسة صحفية لها مذاقها الخاص».