رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحج.. من استطاع إليه سبيلًا


منذ سنوات وأنا أنتظر عامى الخامس والأربعين كى أستطيع السفر للحج دون محرم.وخلال هذه السنوات كنت وما زلت أستعد روحيًا كل عام مع بداية شهر ذى الحجة لهذه الرحلة، وكلما مرت السنوات وقرأت أكثر ‏أصاب القلب وجل وخوف، فالحج ليس بالبساطة التى أتصورها، وشعائره عند أهل المعرفة ليست مجرد النية، وتوافر القدرة المادية والبدنية والإحرام والطوائف والسعى، فخلف كل خطوة أبواب ومقامات، حجب وأستار، ‏معانٍ وكشوفات، أين أنا منها؟ ‏
يضع الشبلى الصوفى شروطًا للحج المبرور يجهلها أكثرنا.. وأول شروط الحج أن تعقد للحج ولا يصح هذا العقد إلا بأن تفسخ به كل عقد عقدته منذ خلقت مما يضاد ذلك العقد، وأنه عندما تنزع ثوبك للإحرام فمعناه أن ‏تتجرد من كل شىء، عندما تتطهر تزال بطهرك عنك كل علة، وعندما تلبى تجد جواب التلبية بتلبيتك مثله، فإذا دخلت الحرم؟، اعتقدت فى دخولك الحرم ترك كل محرم.‏
إذا دخلت المسجد، دخلت فى قربة من حيث علمت.‏
وإذا رأيت الكعبة، رأيت ما قصدت له. ‏
وإذا رملت ثلاثًا ومشيت أربعًا؟ فقال: هربت من الدنيا هربًا علمت أنك قد فاصلتها وانقطعت عنها، ووجدت بمشيتك الأربعة أمنًا مما هربت منه، فازددت لله شكرًا لذلك. ‏
وإذا صافحت الحجر وقبلته أظهر الله عليك أثر الأمن فإنه قد قيل: إن من صافح الحجر فقد صافح الحق سبحانه وتعالى، ومن صافح الحق سبحانه وتعالى فهو فى محل الأمن. ‏
وإذا وقفت بين يدى الله تعالى خلف المقام وصليت ركعتين، وقفت على مكانتك من ربك، ناديت قصدك.‏
وإذا خرجت إلى الصفا فوقفت بها، كبرت بتكبير الملائكة، ووجدت حقيقة تكبيرك فى ذلك المكان، وإذا نزلت من الصفا، زالت كل علة عنك حتى صفيت. ‏
وإذا هرولت، قال: ففررت إليه، وبرئت من فؤادك، ووصلت إلى وجودك، وإذا وصلت إلى المروة، رأيت السكينة على المروة فأخذتها أو نزلت عليك. ‏
وإذا خرجت إلى منى، تمنيت على الله غير الحال التى عصيته فيها.‏
وإذا مضيت إلى عرفات، عرفت الحال التى خلقت من أجلها، والحال التى تريدها، والحال التى تصير إليها، وعرفت المعرف لك هذه الأحوال، ورأيت المكان الذى إليه الإشارات فإنه هو الذى نفس الأنفاس فى كل حال.‏
وإذا نفرت إلى المزدلفة ورأيت المشعر الحرام، ذكرت الله ذكرًا أنساك ما سواه فاشتغلت به. ‏
وإذا ذبحت، ذبحت نفسك. ‏
وإذا رميت، رميت جهلك عنك بزيادة علم ظهر عليك.‏
وإذا حلقت، نقصت آمالك عنك.‏
وإذا زرت كوشفت بشىء من الحقائق، أو رأيت زيادات الكرامات عليك للزيارة، فإن النبى قال «الحجاج والعمار زوار الله، وحق على المزور أن يكرم زواره».‏
وسأل الشيخ الجنيد أحد المريدين بعد أن عاد الرجل من الحج، مجموعة أسئلة توضح مفهومه للحج قال له: «أرحلت عن جميع ذنبك حين رحلت عن دارك؟ ‏
ثم قال: هل قطعت مرحلة إلى الله؟!‏
ثم قال: وحين لبست ثوب الإحرام فى موضعه، هل خلعت صفات البشرية عنك وأنت تخلع ثيابك؟
ثم قال: وحين وقفت بعرفة.. هل تأملت فى الله لحظة واحدة؟
ثم قال: وحين أفضت إلى المزدلفة وقضيت مناسكك.. هل رفضت جميع الأغراض الجسدية؟
قال: فأنت لم تفض إلى المزدلفة.‏
ثم قال: وحين طفت بالبيت، هل أدركت الجمال الإلهى فى بيت الطهر؟
ثم قال: وحين سعيت بين الصفا والمروة.. هل أدركت الصفا والمروة؟
ثم قال: فلما جئت إلى منى.. هل ذهبت جميع المُـنى عنك؟!‏
ثم قال: فلما وصلت إلى المنحر ونحرت القربان هل نحرت أسباب متاع الدنيا؟
ثم قال له: فلما رميت الجمار.. هل رميت ما صحبك من أفكار جسدية؟
وأيا كانت إجابة الرجل فإن ما يعنينى هو الشروط التحضرية والروحية التى يضعها العارفون بالله بالحج، والتى تفسر ارتباط الحج بمعنى الجهاد لكنه الجهاد الأكبر.. جهاد النفس، والتسامى للوقوف بمقام الحضرة ‏الإلهية.‏