رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصحافة الورقية.. وجود مرهون بالعقل


تظل أزمة الصحافة الورقية جزءًا أصيلًا من أزمة عامة تكتنف الإعلام المصرى.. أزمة تجاوزت الهوية، وهذا أمر خطير، إلى ما هو أخطر، وأعنى بذلك أزمة الوجود من العدم، فى ظل تناقص حاد فى معدلات توزيع الصحف المصرية بعامة، إلى ما دون حجم توزيع صحيفة واحدة فيما مضى، إذ بعدما تخطت الصحف القومية الثلاث، فى وقت من الأوقات، حاجز نصف المليون نسخة، من العدد اليومى لكل منها، وحاجز المليون، فى أعدادها الأسبوعية، يصل الآن حجم توزيع كل ما تصدره المؤسسات الصحفية فى مصر مجتمعة، قومية ومستقلة، حكومية وحزبية، إلى ما دون الستمائة وخمسين ألف نسخة فى اليوم، وسط انهيار حاد فى معدلات الإعلان المطبوع.
هذا الأمر ألقى بنتائجه السلبية على المقومات الاقتصادية لاستمرار هذه الصحف فى الصدور.. وكان أن سبق لنا القول بأن الصحافة الورقية لن تندثر، ولكنها ستبقى وجودًا تراثيًا، غير مؤثر فى القارئ، الذى اجتذبته المواقع الإلكترونية والنشرات الإخبارية وبرامج التوك شو، والمساحة العريضة من الحرية التى تتيحها مواقع التواصل الاجتماعى، وجعلت منها ميدانًا رحبًا لصناعة الأخبار وتلقيها، فى التو واللحظة، إن لم أقل إنها باتت، فى أحيان كثيرة، مصدرًا للأخبار، لما عداها من وسائط الإعلام الأخرى، ومنها الصحف الورقية.
وشأن كثير من الأزمات، أرى القائمين على الشأن الصحفى يعانون من مثل ما يقعون فيه دومًا، وهو الفشل فى إدارة الأزمة، على النحو الذى يضع لها حلولًا منطقية، تعالجها، دونما أى آثار جانبية، أو دونما أن تكون الحلول بمثابة الزيت، نسكبه على النار، فيزيدها لهيبًا.. ففى ظل التصاعد المستمر فى أسعار ورق طباعة الصحف، لم يجد المسئولون حلًا لهذه الإشكالية، إلا الاتفاق على رفع سعر بيع النسخة من الصحيفة، دون أن يدركوا أن ذلك سيخفض، وبشكل حاد كميات التوزيع، عما هى عليه الآن من التواضع المُخل، ونسوا أن هناك عزوفًا من القارئ بالضرورة، عن شراء الصحف، لأنها لم تعد مصدره الأكيد للحصول على الخبر والمعلومة، التى باتت تصله عن طريق هذه الصحيفة أو تلك (بايتة)، ناهيك عن أنه لم يعد يرى نفسه فيما تنشره هذه الإصدارات.. وغير ذلك كثير.. وبدلًا من البحث عن طرق بديلة، نعيد فيها القارئ إلى صحيفته، ذهبنا باتجاه ما يزيد من بعده عنها، وكان يمكننا ألا نفعل إذا نظرنا فى بدائل، تساعد المؤسسات الصحفية على الاستمرار فى الوجود، وتقرب المسافة المتباعدة بين القارئ وصحيفته.
لقد انبرى كُتاب كُثر فى تناول الأسباب التى أدت إلى الجفوة بين المرسل والمتلقى، فى العملية الاتصالية عبر الصحف، وما يهمنى هنا، هو البحث فيما يمكن أن يمثل عمودًا اقتصاديًا يستقيم به عود الصحافة المعوج، الذى أوشك على الانكسار.. وإذا كنت أرى، والحال هكذا، أن الصحافة رسالة وطنية وأمانة اجتماعية، إلا أنها صناعة تخضع لحسابات المكسب والخسارة، وعلى الكل أن يتحملها، إلا القارئ الذى نحن فى حاجة إلى تواصله مع الدولة، عبر أوعيتها الإعلامية الواعية، تبصره وتحميه، توجهه وتُسليه، وتثقفه وتنميه، على أن تكون هناك موارد، تنبع من داخل ذات المؤسسات، تسد الفجوة بين تكاليف الرسالة، ومتطلبات استمرار الحياة فى هذه المؤسسات.. فكيف نحقق تلك المعادلة؟.
أذهب مباشرة إلى الإعلان.. عمود الخيمة لكل إصدار صحفى، بل فى كل وسيلة إعلامية، بجميع تنويعاتها، وإذا كان سعر بيع الصحيفة لا يتناسب مع تكاليفها، فهذا طبيعى، على أن يكون الدخل الإعلانى هو القائم على سد الفجوة بين الوارد والمنصرف فى أية مؤسسة إعلامية.. وإذا كان الإعلان المطبوع يعانى أزمته، بفعل عدة عوامل، من بينها انصراف القارئ، وانهيار معدلات التوزيع، الأمر الذى لا يستقيم معه، أن يقوم مُعلن بالإعلان عبر وسيط لا يصل لكل جمهوره المستهدف من سلعته أو خدمته.. إلا أن المجال لا يقتصر على هذه النقطة، إذ إن غالبية المؤسسات الصحفية تملك كمًا هائلًا من إعلانات الشوارع، أو ما يعرف بالـOUT DOOR، الوسيط الذى ليست له علاقة بمدى انتشار الصحيفة من عدمه، بقدر ما يرتبط بجاذبيته وموقعه بالنسبة لجمهور الشارع.. والمؤسسات الصحفية القومية الكبرى تملك رصيدًا من المواقع، فى هذا النوع من الإعلام غير قليل، مطلوب أن نتجه إليه بقوة، شريطة أن تكون هناك منظومة حاكمة بين هذه المؤسسات والمحليات، صاحبة الحق فى الترخيص بهذا النوع من الإعلانات، على طريقة أفد واستفد.
لأن الدولة يمكنها تحقيق مكاسب لا بأس منها، مقابل الترخيص بها، عبر المحليات، فى ظل التنامى الشديد فى الإقبال على إعلانات الشوارع، فى الوقت الذى يعمل خبراء الإعلان على ابتكار أشكال وأنماط جديدة منها، تجذب الجمهور، وتسهم فيما تصبو إليه الدولة من الشكل الحضارى للشارع المصرى، دون أن يكون هناك شطط من المحليات فى تسعير التراخيص، ودونما تعنت من مسئوليها فى تحصيل مستحقاتها، بالقوة الجبرية، حتى ولو وصل الأمر إلى تكسير وحدات الإعلانات، وتمزيق ما عليها من رسائل إعلانية، لأن الميراث القديم ثقيل، بفعل إدارات سابقة لهذه المؤسسات، عاشت يومها، وألقت بالتبعة على من يجىء بعدها، بالرغم من أن الدولة دعمتها بالعديد من المليارات، لعلها تنجح فى تصحيح مسار مؤسساتها، لكن بعضها أخفق، وذهبت الأموال سُدى.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن صديقى عبدالرحمن بخيت الحماد، المدير التنفيذى لشركة المئوية السعودية، أرسل لى العديد مما يتصل بالسوق الإعلانية عبر الشوارع، نستعرضه فى الأسابيع المقبلة، لعله يُفيد من أراد الاستفادة.
ومع أن الحديث عن إلغاء الكتاب المدرسى قائم، إلا أننى أرى أنه ما زال فى الوقت متسع، لتقوم المؤسسات الصحفية على طباعة كتب وزارة التربية والتعليم، بالقدر الذى يصل إلى الحدود القصوى لإمكانياتها الطباعية، بعيدًا عن المطابع الخاصة، التى تستأثر بالقطعة الأكبر من الكعكة السنوية لهذه الكتب، باعتبار أن تلك أموال دولة تذهب للمؤسسات الصحفية مقابل عمل، وليس على سبيل المنحة أو الهبة.. فقد دلت التجربة على أن مؤسسة قومية بعينها، حصلت، بجهد خاص، منذ ما يزيد على خمسة أعوام، على ما يُقارب الخمس عشرة مليون نسخة كتاب مدرسى للطباعة فى مطابعها التجارية، فى بادرة لم تحدث من قبل، ولم تتكرر بعد ذلك، وحتى الآن، مع أنها نفذت المطلوب، بالجودة اللازمة وفى الوقت المحدد!.. أليس «جحا أولى بلحم ثوره».. مطابع تعمل، وعمال يكسبون، مستفيدون ومُفيدون؟!.. الأمر يحتاج نظرة وقرارًا ثوريًا.
نأتى لبعض الأصول المُعطلة فى بعض المؤسسات، والذى يقف النظام الأساسى لإنشاء هذه المؤسسات دون الاستفادة من هذه الأصول، فى مشروعات مساندة للعملية الصحفية، أو قريبة منها، تُدر دخلًا يسد الفجوة الكبرى فى أزمة المؤسسات المالية، وما أعلمه أن النظام الأساسى ليس قرآنًا منزلًا، حتى يقف حائلًا فى مواجهة مشروعات ربحية، تقلل من حدة الأزمة، حتى يجعل الله لها مخرجًا، ويجد أولو العلم حلولًا لها، تعيد العُروة ثانية وُثْقى بين القارئ والصحيفة.. ويدخل تحت هذا البند كثير من المشروعات، ربما أهمها، تكوين كيان واحد مستقل للتوزيع، تشترك فيه كل المؤسسات الصحفية، بعمالة واحدة وأسطول سيارات واحد، بدلًا من هذا المهرجان العريض من السيارات والعمال والموظفين، يقفون وراء عدد هزيل من المبيعات، لا تسمن ولا تغنى من جوع.
خلاصة القول.. إن الحل يكمن فى المشروعات الاستثمارية التى يجب استغلال كل مرتكزات المؤسسات الصحفية فيها، من عمالة وإدارة وثروات وأصول، ولنجعل الصحافة المطبوعة رسالة خالصة للوطن، لا نلقى بالًا لمكسبها إن لم يتحقق، ولكن نهتم كثيرًا ونسأل أنفسنا: لماذا عزف المواطن عن قراءة ما اعتاد على قراءته؟.. وللحديث بقية.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.