رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمة فى خطر


لا تنزعج عزيزى القارئ من عنوان هذا المقال، فهذا شعار قديم يرجع إلى عام ١٩٨٣، ولم نُنَادِ نحن به بل ذلك كان ناقوس إعلان الخطر على أمريكا لا بسبب حروب قادمة، ولا لأزمة مالية صارخة حلت بالبلاد، ولكن هذا الشعار نادى به رئيس الولايات المتحدة فى ذلك التاريخ بسبب العملية التعليمية.
أما مصر ذات الحضارة القديمة فقد خرجت من التصنيف العالمى للتعليم، ويمكن حصر أسباب تدهور التعليم فى النقاط التالية: إعداد المعلم غير كاف مع نقص الإمكانيات فى التدريب.. اعتماد التعليم بشكل أساسى على التلقين والحفظ دون الفهم.. ضعف استخدام الطرق الحديثة فى التعليم.. حشو المناهج بما لا يفيد كثيرا المتلقين للتعلم.. عدم مواكبة المناهج التكنولوجية الحديثة مثل الحاسب الآلى والإنترنت.. بُعد المناهج الدراسية عن المجتمع الذى يعيش فيه الدارسون.. التركيز فقط على الامتحانات التحريرية كمصدر وحيد لتحصيل التعليم.. ضعف مستوى المعلم من حيث مؤهلاته واختباراته وتدريباته، فهى غير مواكبة للعصر.. تدنى رواتب المعلم مقارنة بما يمكن الحصول عليه من الدروس الخصوصية ومراكز التعليم خارج جدران المدارس.. النقص الشديد فى تدريب المعلم تدريبا حديثا يتوافق مع أسلوب العصر.
وهكذا تتزايد الأدلة القاطعة على تدنى العملية التعليمية حتى خرجنا من قائمة قياس المستوى التعليمى عالميا بعد أن كنّا فى ذيل القائمة، وحتى لا نكون فى الجانب السلبى على طول الخط، فهل من دواء يحرك المستوى التعليمى؟ نقول نعم، لا توجد مشكلة دون حلول إذا خلصت النوايا وكنا جادين فى عزيمتنا.. التعليم والمعلم: فالمعلم هو الركن الأساسى فى تعليمه وتدريبه وتقديره ومحاسبته، فلتراجع مواد دراسته النظرية ودورات تدريبه العملية بكل جدية، ولا مانع من الاستعانة بمناهج دول سبقتنا فى نهضة مدارسها على المستوى العالمى. أما الأمر الآخر فهو مناهج التعليم، فكفانا الحشو والاعتماد على الحفظ دون فهم.
لا أرى مانعا، بل ليتنا نأخذ الأمر باهتمام، ونتبادل المعلمين ليس فقط بإرسال بعثات للهو والفسح، ولا مانع من عدم العودة، كما يحدث فى الكثير من الحالات، أما تبادل المعلمين فذلك بمعنى دعوة نوع متميز من دول سبقتنا وإرسال عدد من معلمينا لتلك الدول.. أما الأمر الذى يشغلنى، فعلا، فهو التعليم من خارج المدرسة ما دام يمكن الحصول على المناهج وتقوم الأسرة بتعليم أولادها، على أن يمتحنوا مع تلاميذ المدارس، وبذلك نخفف على الدولة الأبنية والمقاعد والمعلمين، ولا مانع من تدريب ربات البيوت على استخدام المناهج التربوية لتأهيل أبنائهم.
ودعونا نتفكر فيما أعلنه مجلس النواب المصرى عن أسفه لتصنيف التعليم فى مصر.. وكأن المجلس لا يتابع مستوى التعليم فى مصر لطلاب المدارس الأزهرية، حيث جاءت النتيجة على هذا النحو: أعلنت نتائج الثانوية العامة فكان الراسبون أكثر من واحد وسبعين فى المائة، وراسبو الشهادة الإعدادية خمسين فى المائة، وإذا رجعنا للثانوية العامة وما يتلقاه الطلاب من دروس خاصة وكم الأموال التى تصرف على تلك الدروس الخاصة لوجدناه شيئا مهولا.
ويذكر أحد الباحثين أن قانون ١٠٣ بشأن تنظيم الأزهر جعله أربع هيئات هى المجلس الأعلى للأزهر، لرسم السياسة العامة، وجامعة الأزهر تختص بالتعليم العالى فى الشأن الدينى وأُضيفت إليها كليات مدنية مثل الهندسة والطب والإدارة والزراعة مع فروع خاصة للبنات، وبذلك توسع الأزهر ليمتد إلى ما بعد الشأن الدينى فى الطب بفروعه كالأسنان والصيدلة والهندسة والإدارة والمعاملات واللغات والترجمة حتى بلغ عدد الكليات التابعة لجامعة الأزهر وفروعها إلى سبع وسبعين كلية، تستوعب نحو أربعمائة ألف طالب وطالبة يمثلون نحو عشرين فى المائة من عدد الملتحقين بكل الجامعات التعليمية فى مصر، ويقوم بالتدريس فى هذه الجامعات وفروعها نحو أحد عشر ألف أستاذ ومدرس ومعيد، يقوم بمساعدتهم إداريا وماليا نحو ثلاثة عشر ألف موظف وموظفة. وقد امتدت فروع هذه الجامعات لتغطى ست عشرة محافظة، ويبلغ عدد المدن الجامعية التى تخدم الجامعات أربع عشرة مدينة جامعية.
هذا بالإضافة إلى المعاهد الأزهرية، التى تقل قليلا عن عشرة آلاف معهد لتدريس مراحل ما قبل الجامعة من الابتدائى حتى الثانوية العامة. وقد كان لى حوار مع صديق من أساتذة جامعة الأزهر، وقلت لصديقى: ماذا تتوقع من طفل لم يتجاوز خمس سنوات من العمر التحق بالتعليم الأزهرى، وكانت معاهد جاذبة لقبولها الأطفال أقل عمرا من التعليم العام بسنة، ثم يستمر فى التعليم بكل مراحله حتى يتخرج فى الجامعة طبيبا أو قاضيا أو مهندسا، ولم يلتق فى حياته بآخر مخالف له فى الدين، ثم نطالبه باحترام قاعدة الشراكة الإنسانية والوطنية وكل القيم المسكونية؟!، والنتيجة نحصد مرارة الأحقاد والبغض ورفض الآخر، هذا فضلا عن أبواق وبرامج ومناهج تعليمية لا تساعد على العيش المشترك.
مرة ثانية أستخدم الشعار الأمريكى، الذى مرت عليه عشرات السنين «أمة فى خطر». يذكر صديقى الأستاذ الكبير فى جامعة الأزهر أنى سألته: ماذا تتوقع من خريجين لم يلتقوا يوما مخالفين لهم، عقيدة وديانة وفكرا؟ لقد كانت الكنائس أول من اهتم بالتعليم وأنشأنا المدارس، لكننا كنّا نعلم أن الجمال كله فى التعدد عندما يجلس محمد ومرقس فى مقعدين متلاصقين ويمارسان الرياضة والرحلات معًا، ولا مانع من تقديم وجبات غذائية ليقتسما رغيف الخبز معًا، ونحن فخورون بتعليم أبنائنا مسلمين ومسيحيين، فى الفصل الواحد يشتركان رياضيا ويتزاملان فى الرحلات ويتزاوران فى المناسبات، وقد كان من أبنائى فى مدارسنا فريدى وحسن وفيكتور وأحمد، ولا يزالون أصدقاء بعد أن فرقهم العمل وربما الجغرافيا أيضًا، لكنهم لم ينسوا صداقتهم وتآخيهم ومشاركتهم فى السراء وفى الضراء.
ويبقى السؤال الذى يتكرر كثيرًا: وماذا بعد؟! فقد كان ما كان، وكيف تحل الإشكالية؟ قلت لصديقى: افتحوا أبواب الدراسة العلمية للجميع بلا استثناء، ودع الدين كمادة منفصلة، كما نعمل فى مدارسنا ومدارس وزارة التعليم، افصلوا بين التعليم الدينى والتعليم المدنى، وسوف يكون هذا عائدا إيجابيا على المسلم قبل زميله غير المسلم، وسوف يتعلم ابنى المسلم كيف يتعايش عندما تعطى له فرصة الدراسات العليا فى بلاد الغرب، حيث يلتقى بمخالفين له، وعليه أن يعمل ويأكل ويشرب من طبق وكوب مشترك. إنى أعرف من يقول بأن هذا مستحيل وصعب تحقيقه، وأنا مقدر كل هذا، ولكن العدل والصالح العام وتنشئة جيل قادر على مواجهة الحياة ومعايشة المجتمع المتعدد الثقافات وبناء مجتمع العدل والسلام، هذا كله قائم على الفكر والرأى والعمل المشترك.