رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى رحاب جمال عبدالناصر


رن هاتفى المحمول، يبلغنى من كان على الطرف الآخر، بأن فلانًا، البالغ من العمر بضع سنين، بعد الخمسين، تعرض لحادث على الطريق الصحراوى، ونقلته سيارة الإسعاف إلى مستشفى العامرية العام.. من فضلك، تعال بسرعة، تساندنا فيما نحن فيه منذ التاسعة والنصف صباح هذا اليوم الجمعة، وقد بلغنا العاشرة مساءً الآن، والمُصاب كما هو، لم يتم حتى تنظيف ذراعه التى تقطّع لحمها، أو التعامل مع كسوره التى سببها انقلاب السيارة!.. سابقت الوقت على الطريق الواصل من ميدان لبنان بالقاهرة، حيث كنت، وحتى مستشفى العامرية، عند مدخل الإسكندرية، حتى وصلت وقد انتصفت الساعة بعد تمام الحادية عشرة.
لم يجد الطبيب الشاب، المهذب، وهذا اعتراف واجب الإثبات، إلا أن يكتب تحويلًا للمريض، إلى مستشفى جمال عبدالناصر للتأمين الصحى، بقلب الإسكندرية، بعد أكثر من اثنتى عشرة ساعة قضاها انتظارًا لمن يتدخل لجبر كسره أو خياطة جلده.. ولم ينس الطبيب الشاب أن يكتب على تذكرة التحويل (يحتاج عملية تنظيف، وجراحة تجميل)، قائلًا لى، إن المستشفى الآخر لديه جراحون مهرة، وأطباء تخدير متميزون، وعلى مدار الساعة، فهو (مستشفى تأمين صحى).. قالها بفخر، وأنا لا أدرى، ما إذا كان يبتغى مصلحة المريض، كما أكد فى كلامه، أم أنه يُزيح عن نفسه ومستشفاه همّ حالة صعبة، ليتولاها غيره؟!.. وأقلّتنا سيارة الإسعاف، والمُصاب فى كامل وعيه وحركته البدنية، وذراعه ملفوفة برباط شاش، دون أن يسبق ذلك عمل أى شىء، لعلاج ما سماه الطبيب، شرخًا فى رسغ الذراع اليسرى، وتهتكًا فى الأنسجة الرخوية بالذراع.. ومطلوب عملية تنظيف سريعة وعاجلة.
راحت سيارة الإسعاف، حاملة مُصابنا، تنهب المسافة من الطريق الصحراوى، بين العامرية وشارع أبى قير بوسط الإسكندرية، بطول يقارب أربعين كيلومترًا.. وصلت بعدها عند باب المستشفى الذى يشهد هدوءًا صوتيًا، ولكنه يعج بحركة دءوب، فى ليل يوم جمعة.. لم يبخل رجال الإسعاف بجهدهم، فى البحث عن تروللى، من بين التى أصابها العطب من كثرة الاستخدام وقلة الصيانة، وعبثًا حاولنا التأقلم على ما هو متاح، فمنطقة الإسكندرية بكاملها، يخدمها تأمينيًا، مستشفيان فقط، أولهما الذى وصلنا إليه للتو، والآخر، مستشفى الميرى.. رجالهما من الأطباء والتمريض أكفاء، لا شك فى ذلك، ويشهد لهم كل من تعامل معهم، لكن، ماذا يفعلون، وقلة الإمكانيات هى عنوان المكان.. كسابقه الذى قضى فيه المُصاب نهاره كاملًا، دون تدخل طبى يُذكر.. سألنا طبيب الاستقبال عن التقرير الطبى وصور الأشعة المقطعية التى أُخذت لموضع الإصابة، فقلنا له ما قاله فنى الأشعة بالعامرية، الطابعات مُعطلة، والدكتور يأتى لمطالعة ما رصده جهاز الأشعة، عبر شاشته، ليفهم ما بهذا المصاب أو ذاك، ليتصرف بعدها، على ذاكرة بصرية، ربما خانته، من كثرة ما يرى على هذه الشاكلة طوال اليوم، وليس هناك من وسيلة لتوثيق الحالة إلا ورقة بيضاء، يكتب فيها الفنى المختص، بسن قلمه، ما رآه، علّه ينفع الطبيب المُعالج.. وكان علينا أن نُعيد الكرّة عند جمال عبدالناصر، كما بدأناه أول مرة، بالعامرية.
مطلوب عمل أشعة مقطعية على الذراع والمخ، مرة ثانية، وأخرى موجات صوتية على تجويف البطن، وثالثة X RAY على الصدر.. وفى هدأة الليل، وقد تجاوزت الساعة الواحدة والنصف صباحًا، عليك أن تبحث، هنا وهناك، بين دهاليز مستشفى، فتح الله عليه بامتداد مكانى غير مسبوق، ويخضع لعملية تطوير معمارى، أحال بعض جنباته إلى ورشة معمار، بين رمل وزلط، عن الفنى المناوب، الذى يحالفك الحظ، إن وجدت من يدلك على مكانه، وقد ترك مكان عمله، بعد أن اطمأن عليه، بإحكام إغلاقه بقفل، يملك مفتاحه، وقد قاربت الساعة على الثالثة صباحًا، عندما انتهينا من إتمام المطلوب.. وكسابقه، لم تكن هناك طابعة لأى نوع من أنواع الأشعة المطلوبة، فيما عدا أشعة إكس، لطباعة صورها.. وهنا بدأ مصابنا، الذى سبق له تركيب دعامة فى القلب، ويعانى من مرض السكرى، فى الشعور بالهبوط، والدخول فى بداية غيبوبة، قال الطبيب عنها، إن المريض أصيب بكسر فى ضلوعه، كما بينت أشعة إكس، وانغرست فى الرئتين فثقبتها، وارتفع ثانى أكسيد الكربون، وقل الأكسجين فى منظومة الجهاز التنفسى.. عَرضٌ بدا فى الظهور، لمرض حدث منذ الصباح، ولم يلتفت أحد إلى وجوده.. وما زال الرجل يرقد فى غيبوبة بالعناية المركزة لمستشفى جمال عبدالناصر، يسابق الأطباء الزمن للإبقاء على حياته، الأهم الآن من النظر إلى كسور وتهتكات ذراعه.. فالتدخل الجراحى لجبر ما انكسر، صار من المستحيلات.. لأن الرجل، وحتى كتابة هذه السطور، خرج عن الوعى بالحياة من حوله.
أقول قولى هذا، غير منتقد للوضع الصحى فى مصر، فذلك ميراث قديم، ومنظومة إهمال طويلة، دفعت واحدًا من أمهر جراحى المخ والأعصاب بمستشفى جمال عبدالناصر، بطل حكايتنا هذه، إلى الاستقالة، متنقلًا بين الإسكندرية ولندن، جراحًا لعمليات يتقاضى مقابلها عشرات الآلاف، من الجنيه المصرى والإسترلينى، بعد أن كان غاية ما يحصل عليه، مائة وخمسين جنيهًا عن كل جراحة يُجريها، لمريض فى مستشفانا هذا، ليس ذلك عن قلة فى ولائه للبلد ولا الانتماء إلى ترابه، ولكنها الحياة التى لا ترحم من لا يملك قوت عياله.
ولكن مقالى هذا دعم لنهج جديد تسير فيه الدولة، نحو إصلاح اعوجاج منظومة التأمين الصحى فى مصر، التى تجاوزت سبعين عامًا، عانى فيها المصريون ويلات المرض وعذابات الترهل وقلة الإمكانيات.. كلمتى تنحاز لقانون التأمين الصحى الجديد.
لكن، حتى تبدأ التجربة، فى المحافظات التى تم اختيارها، بدايةً للتطبيق، إلى أن يتم تعميمها على مستوى الجمهورية، مُستفيدين من كل أخطاء الماضى، قائمين بتقييم الإجراءات، وصولًا للأرقى والأنفع للمواطن.. أقول، ونحن فى انتظار تحقق كل ذلك، مطلوب دعم ما هو قائم، حتى نحافظ على أرواح قد يقتلها الإهمال أو قلة الإمكانيات، أو الجهل ببعض تفاصيل، لم تكشفها لنا ما بين أيدينا من إمكانيات، كذلك الرجل الذى راح فى غيبوبة موت، لأن أحدًا لم ينتبه إلى أن ضلعًا اخترق رئته فثقبها، فأوصلته إلى حافة الموت، بعد أن سبق ودخل المستشفى على قدميه لا يعانى إلا من كسر وجروح فى يده.