رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحياة هبة ربانية وإهدارها خطيئة دونية


المتابع لما تؤكده مبادئ الأديان لصالح واستقامة الإنسان، يدرك الكم من التحذيرات والدعاوى إلى الاستقامة فى السلوك وتجنب الكراهية والأحقاد التى من شأنها أن تقود إلى الرفض والبغض، وبالتالى نبذ الآخر، أيًا كان هذا الآخر، سواء كان مغايرًا فى الدين أو فى العقائد المتعددة حتى داخل الديانة الواحدة، وبالتالى تجر الإنسان إلى رفض كل مغاير حتى تبلغ إزهاق الأرواح، رغم أن طبيعة التديّن لا تتوافق مع الرفض والكراهية، وبالتالى الحقد والمقت، الذى يصل إلى القتل.
حظر الإسلام ارتكاب جرائم القتل فى القول «أنه ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا».
وتركز تعاليم الإنجيل على كرامة الإنسان، فهو خليقة الله، أى من صنعه، وأى إهدار لكرامة خليقة الله فهو عصيان، فقد خلق الله الإنسان متميزًا عن سائر مخلوقاته، فصارت الخليقة مكرمة بكرامة خالقها، وأى إساءة إلى صناعة المولى عصيان، بل ورفض لصانعها، وفى حياتنا اليومية رفض الشىء يعنى رفض صانعه أو المعطى لهذا الشىء. ومن الأمثلة البارزة التى تدلل على أن قيمة الشىء من قيمة صاحبه، أنه بعد وفاة الكاتب الأمريكى «إدجار ألان بو» بمائة عام بيعت إحدى رسائله المكتوبة بخط يده، والتى لم تتجاوز ستة أسطر، بعشرين ألف دولار، لأنها بخط يد كاتب مشهور فى زمانه.
وإذا كانت قيمة الشىء من قيمة صاحبه، فكم تكون قيمة الإنسان الذى هو من صنع الخالق، فقد خلق الله الإنسان متميزًا فى خلقه عن سائر المخلوقات.
فبينما كانت الطيور والأسماك والحيوانات خلقت بكلمة «كُن فكانت»، أما عن الإنسان فقد كان من صنع الله، فصار الإنسان على قمة الخليقة، بل والمتسلط عليها بتكليف من خالقها، فالإنسان صممه الخالق، ثم نفخ فيه نسمة حياة فصار نفسًا حية، «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض».
وكما ميز الله الإنسان بالعقل والتذكر والنطق الذى به يخاطب نظيره الإنسان، وكما خصّه بحرية الاختيار حتى فى عبادته، فلم يُجبر الإنسان على طاعته، بل ارتبطت الطاعة بالبركة، وعكس الطاعة المعصية، والإنسان حر أيضًا غير مجبر على الطاعة، ولكن للطاعة بركاتها «إن سمعتم وأطعتم تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف»، فأصبح الإنسان على قمة خليقة الخالق فى الإرادة، فهو غير مجبر على طاعة خالقه، لكن للعصيان جزاؤه، كما للطاعة بركاتها.
ومنذ أن خلق الإنسان فهو متميز بالحنين للخالق، واللجوء إلى خالقه فى اليسر كما فى العسر. وفى عبارة لواحد من قيادات الشرق الأوسط هو كمال جنبلاط «منذ أن وجد الإنسان فى مكان ما وعلى مدى الزمان يشعر فى أعماقه بأشواق لا تنطفئ إلى المعرفة، وتبدأ بمعرفة الذات ومن عرف نفسه عرف غيره وعرف العالم وعرف الإله وهذه المعرفة تتطلب البحث والجهد والاختبار، وينتج عن هذه المعرفة نوع متميز من الفرح الأكبر الذى لا يدانيه فرح».
إن منارة المعرفة هى طاقة النور للإنسان فى بساطته حتى وسط الجدلية والتناقض والتضاد، ويظل الإنسان هو مصدر المعرفة والاستنارة حتى فى بساطته، وبالعلم والشوق إليه يقود كمنارة فى الظلمات، وهو الإنسان باعث الحضارات والداعى للحريات، ويبقى فى ذلك وحيدًا متفردًا بين سائر المخلوقات، وبدونه لا مدنية ولا حضارة ولا رقى ولا تطور، وكل هذا ارتبط بالإنسان المتشوق للعلم والبحث والحياة الأفضل بعيدًا عن الحروب ودمارها، بل هو الإنسان الذى يبذل الجهد للرقى والتقدم ومحاولة إنقاذ البشر من الحروب وويلاتها، ومن غضب الطبيعة، كما تابعنا مؤخرًا عن غضبة الطبيعة فى مناطق من الولايات المتحدة، حيث شبت الحرائق الطبيعية، وليست بيد فاعل، فأحرقت ما حولها وراح ضحاياها من البشر وغير البشر، ولم تستطع الأدوات المقاومة هزيمة الطبيعة الثائرة.
إنها دعوة للإنسان والإنسانية أن تتقارب وتتعاون لإنقاذ البشرية، والتكاتف من أجل التقدم فى العلوم والصناعة، حتى نقضى على الفقر فى العديد من دول العالم، ولتوجه أموال الأسلحة والذخائر إلى إنتاج الطعام والكساء ونشر العلم والرقى لحياة كريمة أفضل من كل ما مضى.
إننا نعيش فى عصر السباق المعرفى والتطور العلمى والتوسع فى الإنتاج من كل الوجوه، حتى تتسع دائرة تبادل المنافع بين دول العالم، فيختفى المرض القاتل والجوع بكل معانيه، جوع إلى الطعام وعطش إلى مياه صالحة للآدميين الذين لا يحصلون على القليل مما يقدم فى دول العالم الأول للكلاب والقطط وطيور الزينة. ولعل قصة المعلمة التى كانت تعاقب بالضرب بالعصا، طفلة تصل إلى الفصل متأخرة قرابة الساعة كل يوم، وفى صباح مبكّر خرجت المعلمة للتريض، وإذ بها تجد الطفلة المعاقبة كل يوم تنظف السيارات لتحصل على بعض النقود، فتسرع بها إلى الأم المريضة وإخوتها الجياع، وهنا بكت المعلمة لأنها ظلمت الطفلة وبدأت المعاملة تختلف تمامًا.
ليتنا نراجع أنفسنا ولا نحكم على الأمور من الظاهر، بينما الخفى مختلف، فقبل أن ندين غيرنا نراجع أنفسنا ونتذكر دائمًا أنه لو حكمنا على أنفسنا ما حكم علينا، والإدانة التى بها نحاسب غيرنا يأتى اليوم الذى نحاسب بذات الدينونة، فبذات الكيل الذى به نكيل لغيرنا يكال لنا.. إنها دعوة لمراجعة النفس قبل فوات الأوان.