رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العام السادس والستون


تمر هذه الأيام الذكرى الـ٦٦ لثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢. ثلثا قرن بالتمام والكمال مضيا على تَفَجُّر ثورة رائدة، نقلت مصر، دولةً وشعبًا، من وضع إلى وضع. أطاحت بطبقة حاكمة مهترئة وشائخة، من ممثلى الإقطاع والرأسمالية التابعة، وحلّت بديلًا لها جموع الشعب من الطبقات الفقيرة والمكافحة.
قطعت الثورة بمصر شوطًا ملحوظًا على مدارج التقدم، من دولة فقيرة محتلة، إلى دولة مستقلة ذات أفق تنموى واضح، تسعى لامتلاك قاعدة إنتاجية صناعية واسعة، كانت ذات يوم ملء السمع والبصر، وساعدت على الاكتفاء الذاتى من معظم الحاجات الضرورية للبلاد، وحررتها، أو كادت، من الوقوع فى ربقة الاستدانة واللهاث وراء الهيئات الدولية المالية، لاستجلاب استثماراتها التى لن تأتى، ومعوناتها المشروطة التى لا تحمل خيرًا للبلاد.
لم يكن عهد الملكية عهدًا ذهبيًا وفردوسًا مفقودًا لليبرالية والحرية كما يزعم خصوم الثورة. فحزب الوفد، صاحب الشعبية الطاغية، الذى كان يفوز باكتساح فى كل المنافسات الانتخابية، لم يُمَكَّن من الحكم، طوال «العهد الليبرالى» الميمون، إلا لست سنوات وبضعة أشهر فقط، والانقلابات الدستورية كانت حاضرة للإطاحة به وقتما أراد الملك وحاشيته.
عاش الفلاحون المصريون حياة السخرة والمسغبة، حفاة عراة إلا من «هلاهيل» تغطى العورة، مُستذلين مُهانين فى وطنهم وفوق تراب أجدادهم، وكان «المشروع القومى» هو «مشروع مقاومة الحفاء»، لأن أغلب المصريين، آنذاك، كانوا أعجز من أن ينتعلوا حذاءً فى أقدامهم.
أما الصورة البرّاقة، اللامعة المبهرة، عن مصر ما قبل الثورة: مصر الصالونات الفخيمة، والراقصات الفاتنات، والشوارع الواسعة اللامعة، فقد كانت قائمة بالفعل، لكنها كانت صورة مصر النخبة المحدودة العدد، من الأجانب، والمتمصرين، وعِلية القوم من السراة وأثرياء الحرب. فى حين كان «الشعب»، فى أغلبيته الساحقة، يعانى من فتك الثالوث الشهير: «الفقر والمرض والجهل»، ومن الانقسام الطبقى الحاد بين من يملكون كل شىء، وبين من لا يجدون قوت يومهم.
حاولت ثورة يوليو، بكل ما وسعها الجهد، أن تواجه هذه الأوضاع البائسة، التى رانت على البلاد، وأن تزيح عنت الاستعمار البريطانى الذى امتد ثقله إلى نحو ثلاثة أرباع القرن، وأن تُعيد للمصريين كرامتهم المفقودة من عشرات القرون والعقود، وأن تحقق «العدالة الاجتماعية» قدر ما وسعتها الطاقة، وأن تنهض بمصر من عثرتها، لتعيد لها سيرتها العظيمة الأولى، فنجحت فى إنجاز بعض مهامها، وفشلت فى البعض الآخر.
نشرت التعليم فى ربوع البلاد، وأصبح حقًا للفقير والغنى، وارتقت بوضع المرأة من تابع مغبون للرجل، إلى كائن إنسانى معتبر، له الحق فى المعرفة والعمل، وحققت درجةً مقبولةً من وحدة النسيج الوطنى، دون تمييز أو تعصب، وخرجت بمصر من حجابها خلف أستار القرون الوسطى، إلى رحاب العالم الجديد، فساعدت ودعمت كل صاحب قضية يسعى لبلوغ ناصية الحرية، وقادت الشعوب من أجل إزاحة عبء الاحتلال والاستغلال، ورفعت اسم مصر فى المحافل الدولية، وخاضت معارك الاستقلال المادى والمعنوى للبلاد، أممت القناة التى حفرتها سواعد الفلاحين المصريين ومات فى أعمال حفرها بالسخرة، مائة وعشرون ألفًا من بنيها، وبنت سدّها العالى، ونشرت الفن والثقافة فى الربوع، وتصدت لأحلاف أعداء الشعب والوطن.
ولا يعنى هذا، بحال، أن مسيرة ثورة يوليو، وسيرة زعيمها «جمال عبدالناصر»، كانت خالية من الأخطاء والعثرات، بل من الخطايا والكوارث.
فهى تجربة إنسانية، بكل ما تحتويه كل تجارب البشر، من انتصارات وانكسارات، من تقدم وتراجع، وما احتفاؤنا بعيدها السادس والستين، ومن قبل، فى بداية هذا العام، بمئوية زعيمها، إلا تعبير عن أهمية هذا الحدث فى تاريخنا المعاصر.