رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد تُروَى.. طبق الأصل من حراك البصرة


منذ نحو شهر من الآن، ومع دخول فصل الصيف القائظ على الجنوب العراقى، الذى يعد من أكثر المناطق فى العالم التى تشهد ارتفاعا كبيرا فى درجة الحرارة والرطوبة- داهم سكان تلك المنطقة نقص ‏حاد فى المياه الصالحة للشرب، تزامنا مع امتلاء المجارى والترع المخصصة للرى الزراعى بمياه مالحة قادمة من الجانب الآخر للحدود مع إيران، ويطلق عليها هناك «مياه البزل» التى لم يوجد سواها ‏بشط العرب. فسر خبراء الرى المحليون الأمر، باعتبار إيران التى تضربها هى الأخرى أزمة مياه حادة، احتجزت المياه العذبة لصالح حقولها ومنعت جريانها للجانب العراقى، كما هو معتاد تاريخيا، فى ‏منطقة تعد الزراعة نشاطها الرئيسى والمصدر الأول فيها للدخل والوظائف. استبدلت إيران ذلك بمياه صرف حقولها المالحة، لتذهب إلى حقول البصرة وتوابعها، ففسد الموسم الزراعى، ليتبعه أزمة ‏اقتصادية خانقة لمنطقة هى محدودة الدخل بالأساس.‏

بسبب حزمة مشكلات مالية تعانى منها طهران، جراء ارتفاع فاتورة مصاريفها الخارجية وحالة التضييق الدولى الذى يفاقم ما تعانيه، وأمام فترة سيولة عراقية ما بين الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة. ‏ارتفعت فاتورة مستحقات طهران المالية لدى بغداد نظير إمداد الجنوب العراقى بالكهرباء، مما اضطر الأولى أن توقف نسبة كبيرة منها «١٠٠٠ ميجاوات»، لتشهد مدن الجنوب انقطاعات طويلة للتيار ‏الكهربائى، وتتفاقم فيها سبل العيش اليومى فى ظل الحرارة وشح المياه. وإن كانت إيران طوال سنوات سابقة، تتكفل أو «تتغاضى» عن مستحقات من هذا النوع نظير مقابل سياسى تحصده فى بغداد، إلا أن ‏حساباتها الداخلية اليوم لا تملك تلك الرفاهية، فالمتغيرات التى تجابهها عديدة. وهنا تولد إحساس طاغ لدى مواطن الجنوب العراقى، بأن طهران استكملت ما أحرزته من سطوة على قرار بغداد، وأنها اليوم ‏فى سبيلها إلى حل مشكلاتها الداخلية على حساب المواطن الجنوبى العراقى، الذى كان يحظى قبلا ببعض من الرعاية الإيرانية طوال سنوات التقدم، قبيل أن يكون مطالبا اليوم بمجابهة مزدوجة. التهميش ‏الذى تمارسه حكومة بغداد بحقه فى احتياجاته المعيشية الأساسية، والفساد الخانق الذى لا يشل فقط يد الحكومة، بل يتسلل محاولا صناعة تشكيلة النفوذ القادمة، قفزا على إرادة نتائج الانتخابات التى عبرت ‏على نحو لافت عن رفض تلك الأوضاع.‏

التظاهرات التى اندلعت بداية من البصرة، قبل امتدادها إلى محافظات ومدن أخرى حتى وصل البعض منها إلى بغداد- اتخذت بداية شكلا احتجاجيا؛ عبر الغلق لموانئ تصدير النفط وقطع الطرق المؤدية ‏إلى مقار شركات النفط. وكان هذا تعبيرا عن أن المحافظة، وهى الأغنى فى موارد البلاد من النفط، وإيرادات الحكومة الاتحادية تعتمد عليها بنسبة تتجاوز ٨٠٪- تشهد فى ذات الوقت تفشى ظاهرة البطالة ‏برقم مسجل ١٣٩٥٠٠ عاطل فى البصرة وحدها. رغم أن الأهالى وغير الرسميين يؤكدون، أن الواقع يتجاوز ضعف هذا الرقم. تشكلت مجموعة من الاعتصامات السلمية أمام العديد من المنشآت النفطية، ‏وهددت بإيقاف الحقول عن الضخ، فى حال عدم تجاوب بغداد مع مطالب التوظيف والميزانية والخدمات الأساسية. ‏

واجهت الحكومة التظاهرات والاعتصامات، بعد أن امتدت لأيام، بمجموعات من الأمن استخدمت الغاز المسيل للدموع وهراوات التفريق، وفى بعض المناطق بالرصاص الحى، مما أحدث إصابات ‏تزايدت أعدادها مع مرور الوقت. وهنا كان منطقيا أن تتحرك كرة الغضب فى اتجاهات أخرى، خاصة أن ذريعة الحكومة الاتحادية جاءت معلنة أن حظر التجول الذى تم فرضه، وفض الاعتصامات ‏بالقوة، إنما جاء بغرض ضمانة سير العمل بالمنظومة النفطية بكامل مراحلها، رغم أن هذا الأمر هو صلب ما خرج المتظاهرون من أجله. مطالبين بإعادة صياغة لكامل المنظومة، حتى يتسنى لمدنهم ‏وشبابهم تحقيق استفادة معقولة من الثروة التى يمشون عليها بحسب تعبيرهم، ولا تطال مناطقهم استفادة عادلة منها.
الكرة تدحرجت جغرافيا لتشمل كربلاء والنجف، ومنها لذى قار وميسان ثم المثنى وبغداد، ‏مما دفع أجهزة الأمن فى طريق التصعيد المقابل إلى قطع خدمة «شبكة الإنترنت» فى عموم العراق، باستثناء إقليم كردستان. هذه الخطوة شلت العمل تماما بقطاع البنوك والصراف الآلى، وشركات ‏الطيران، وبعض المصالح الحكومية والشركات الخاصة التى تعتمد على الشبكة الإلكترونية بصورة رئيسية.‏

حكومة تسيير الأعمال الحالية، غارقة بين تحديين كلاهما أمر من الآخر، فبعد فوز كتلة «سائرون» التى يقودها التيار الصدرى بالعدد الأكبر من مقاعد البرلمان، تحت شعارين واضحين؛ محاربة الفساد ‏ونبذ المحاصصة الطائفية، إذا باتهامات التزوير تلاحق تلك العملية، ما كشف عن تحجيم كبير مورس فى الخفاء بحق «سائرون»، لتقليص قدرته على تشكيل الحكومة منفردا. أما الآخر فإن الكتل الأخرى ‏الموالية لإيران والداعمة لـ«الحشد الشعبى»، وغيرهم ممن يدورون فى هذا الفلك. يسابقون الزمن لإتمام التحالفات والمساومات التى يمكنها أن تطيح بفوز «سائرون»، لاستعادة القبض على مقاليد قرار ‏الحكومة الاتحادية. لذلك كانت المفاجأة الداهمة أن الاحتجاجات، انطلقت من المناطق الشيعية ومن معاقل الأحزاب الشيعية القابضة والمتنفذة فى الحكم العراقى منذ ٢٠٠٣م!.‏

صب المتظاهرون جام غضبهم، على مقار تلك الأحزاب الشيعية الموالية لطهران والتى نخر فيها الفساد، للحد الذى أوصل العراق لأن يصنف من بين أكثر الدول فسادا على المستوى العالمى. لذلك لم ‏يكن غريبا أن تتعالى الأصوات منددة بإيران فى طول المظاهرات وعرضها، بل شهدت البصرة حدثا غير مسبوق، عندما أحرق المحتجون صور ولافتات (الإمام الخمينى) التى كانت تحظى بما يشبه ‏التقديس. هذا التطور الذى انتقل سريعا من المطالبة بالخدمات الأساسية، إلى عنوان سياسى يطالب برحيل إيران، استمعت له بوضوح كافة آذان التسمع، دفع عناصر من المليشيات التى تعج بها الساحة ‏الخلفية، لمعظم الأحزاب التى شهدت اعتداءات على مقارها، إلى التسلل فى جنح ظلام المدن وقيود حظر التجوال، كى تطلق نيرانها الحرام على المحتجين وفى محيط الاعتصامات، لتسقط العديد من ‏الضحايا. وتبعث برسائل ترهيب يفهمها العراقيون بأنها لن تسمح لهم بالفوز بتلك الجولة، رغم كونها الأكثر اتساعا والتى تصل للمرة الأولى إلى مطار النجف، وميناء أم القصر، وحقول إنتاج النفط، ومقار ‏الشركات صاحبة امتياز الضخ والتصدير. لكن ما يشكل معضلة لدى هذه المليشيات، أن القوام الرئيسى لتلك التظاهرات وأعمال الاحتجاج من المواطنين الشيعة، وأنه ليس فى ظاهر المعادلة، على الأقل ‏حتى الآن، أى من القوى السياسية العراقية، أو الخارجية، تحرك وتدعم هؤلاء. إنما هم يصنعون مشهدهم الخاص العارم بالغضب، والقابل لاجتذاب كل صاحب ميراث قديم منه، إن كان من السنة أو ‏المهمشين أو من ضحايا النفوذ والفساد، الذى لم يتمكن أحد من استيعاب أبعاده حتى الآن.‏