رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بابا عبده» وأشاوس الفكر الطليعى


فى مثل هذا الأسبوع، وتحديدًا فى ٩ يوليو منذ ١٢ سنة، ودعت مصر «عبدالمنعم مدبولى» الفنان الكوميدى الرائع، الذى كان يمثل توريقة وتفريعة مهمة من شجرة الإبداع الكوميدى المصرى والعربى.
المعروف أن «مدبولى» صاحب مدرسة لم يفلت من التأثر بمفرداتها أى من نجوم العصر الحالى، بل نجوم العصور القادمة لاقترابها من مزاج الإنسان المصرى الذى يتعطش للانعتاق والانفلات من كوابيس كونية وطبيعية وإنسانية باتت تحاصره. بداية من مسلسلات النكد ونشرات الأخبار، مرورًا باستفزاز بنات الفيديو كليب باعتبارهن كائنات خرافية لا يمكن أن تهبط على أرض «عزبة النخل» أو تعايش الناس فى «كفر الشهيد» دقهلية، وصولًا إلى القصور والسرايات الفاخرة التى يسكنها رجال الأعمال وتجار المخدرات فى أفلام الأكشن العبيطة، التى لا يمكن أن يحلم أهل قرية «ميت علوان» بأخذ الصور التذكارية أمام بواباتها الضخمة المكهربة.
إذا كان هذا هو الحال فى زمن الاقتصاد المفتوح المفضوح، وفى ظل دنيا الانفتاح الفضائى والمعرفى فى العالم، فإن حال الناس فى زمن فن ومدرسة عبدالمنعم مدبولى فى الخمسينيات والستينيات، كان بالقطع فى حالة أكثر احتياجًا لفنون الإضحاك، بل حتى فنون الأراجوز.. لقد أدرك «مدبولى»- بحس الفنان الموهوب والواعى- هذا الاحتياج لبشر كانوا إذا أداروا مؤشر الراديو، سمعوا هتافات المذيع الشهير «أحمد سعيد» فى صوت العرب يذكرهم بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وإذا أرادوا سماع الأغانى فهى «صوت الجماهير»، و«دقت ساعة العمل الثورى»، وإذا ما ذهبوا إلى السينما كانت تنتظرهم أفلام «جميلة بوحريد» و«الأرض» و«زائر الفجر» و«أبناء الصمت».. فإذا أضفنا تفاصيل الحياة اليومية من صعوبة الحصول على دجاج الجمعية وطابور شاى التموين المغشوش، وصولًا للبحث عن سنترال للتحدث للبلديات فى صهرجت الكبرى.. فإننا نرى أهمية مدرسة مدبولى بداية من «ساعة لقلبك» وحتى «مطار الحب» و«هاللو شلبى»، وكيف كانت تمثل المعادل الموضوعى فى مقابل حالة الشحن الدائم للناس للمزيد من النضال الثورى المعنوى الذى يبثه الإعلام بكل أدواته والذى لا يقابله- فى كل الأحوال- فعل على أرض الواقع توجد قناعات لديهم بأهمية تقديم التضحيات.
فى تأبين الفنان الكوميدى العبقرى الراحل نجيب الريحانى، كانت للشاعر الكبير عزيز أباظة قصيدة رائعة يُعلى ويُثمن كثيرًا دور الفنون وقيمتها فى حياة الشعوب ودور فنون التمثيل والكوميدية منها على وجه الخصوص وعطاء نجيب الريحانى بشكل أكثر خصوصية فى إسعاد الناس وتقديم فنون تبقى.. من هذه الأبيات يقول فى تقديره لفن التمثيل:
قل لمن آثروا على المهن التمثيل.. لم تنفقوا الحياة هباء
فنكم أكرم الفنون على الناس.. وأبقى على الزمان رواء
وفى تكريمه لنجيب الريحانى يقول:
قرّ عينًا فمصر لن تنسى نجمًا.. مشرقًا كرمته بعد المغيب
خالد أنت والخلود زكاة.. الله تسدى للعبقرى النجيب
أعود إلى تلك الأبيات وصاحبها، ومن كُتبت فى تخليده لأرصد هذه الحالة الجميلة من وحدة الفنون والتواصل البديع بين مبدعيها فى ذلك الزمن.. وكيف كان يحدث ذلك رغم محدودية وسائل النشر والاتصال والإعلام.. فقد كان المشاهد المصرى على سبيل المثال- يستمتع بلوحات ومعارض كاملة لسيف وأدهم وانلى ترصد وتحتفى بالفنون الأوبرالية والموسيقية.. وأمثلة أخرى كثيرة فى هذا الصدد للتفاعل بينها، مثل هذه القصيدة لشاعر رأى فى ممثل قيمة يجب أن يتوقف عندها كل أبناء الوطن بالتحية والتحليل لإبداعاته.
لقد لاقت فنون مدبولى ومدرسته انتقادًا حادًا من جانب أشاوس مسارح الطليعة وكُتّاب وشعراء مجلة الطليعة ومبدعى السينما والدراما التقدمية، وصار على عبدالمنعم مدبولى ونجوم مدرسته، التأكيد فى كل مقابلاتهم السينمائية والتليفزيونية والصحفية الرد على الاتهام بأنهم يقدمون كوميديا زائفة تافهة لا تتوافق مع أهداف المرحلة، ولا تتسق مع توجهات كل قوى الوطن الشريفة، والتأكيد على أن هدف الضحك للضحك حتى فى أزمنة النضال الثورى الوحدوى الاشتراكى الطليعى الجماهيرى العربى القومى، هو ضرورة للناس تعينهم على تحمل أعباء تحقيق أهداف المرحلة.
لقد رأى مدبولى وتلاميذه أنه إذا كان الريحانى ومسرحه وفنونه كانوا ينتصرون وينحازون للفقراء فى مواجهة الباشوات الأغنياء ورموز الإقطاع والرجعية من خلال مضامين اجتماعية وإنسانية.. فإن مهمة جيلهم باتت أصعب، لأن معاناة الناس فى عصرهم لم تعد تقتصر على الفقر ومحاربة الحفاء، إلى معاناة شاملة لبشر صاروا فى زمن توهج الفعل الثورى، يصارعون طواحين الهواء فى انتظار تحقيق النصر على عدو غاشم وإرجاء كل الأحلام البسيطة المشروعة حتى فى التعبير عن الاحتياج لها من خلال أحزاب أو وسائل إعلام أو فنون أو حتى فى المقاهى، أو على المصاطب أمام بيوتهم. وعليه فإن الضحك للضحك كان هدفًا معقولًا للمدبوليزم، فقد خفف عن الناس حالة الاختناق التى كانوا يعيشونها نتيجة انحسار الاختيارات وتلاشى فرص التنافس والطموح، فالناس تشابهوا فى ملامحهم، وباتوا وكأنهم يتم تجهيزهم ليكونوا أعضاء فى مثابات ثورية للنضال فى حالة توحّد مع أهداف الوطن العليا. رحم الله الفنان العبقرى بابا عبده الذى تحمل هو وأبناء جيله وتلاميذه عبء تحقيق التوازن فى الحالة المزاجية والإنسانية لدى الناس فى تلك المرحلة.. فهل يتقدم فحول الشعر فى زماننا لتأبين الراحل الكبير فى احتفاليات ذكرى رحيله؟!.