رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هوامش حول حكم «الإدارية العليا»


كفانا تأجيلًا للموضوعات التى تتعلق بالأمن القومى للبلاد، وكفانا تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، فنحن لم نتقدم تقدمنا خطوة واحدة ولو مجرد قيد أنملة نحو مواجهة الخطاب الدينى الفاسد الذى أنتج لنا جماعات التطرف مثل الإخوان والقاعدة وداعش وباقى جماعات التكفير، وطالما أن مصنع «إنتاج الإرهاب» والتطرف باقٍ بيننا يمارس عمله بهدوء واطمئنان فلا تنتظر إلا إرهابيين جددا، ومتطرفين يُنشئون جماعات إرهابية جديدة.

لنا أن ننظر للحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا منذ يومين بعودة «ضباط الشرطة الملتحين» لعملهم نظرة انتباه وفحص وتمحيص، ولأن لى الحق أن أتحدث عن الحكم وأعلق عليه دون أن أتطرق إلى من أصدروه خاصة الأخ المستشار «ماهر أبوالعينين» رئيس المحكمة فإننى أقول إن هذا الحكم بأسبابه وصفحاته صدر وهو يرتدى جلبابا قصيرا ولحية طويلة، وكأن هذا الحُكم هو نفسه أحد قيادات الإخوان، أو كأنه كان فى «أسرة إخوانية» تحت إدارة مأمون الهضيبى مرشد الإخوان، فالمنطق الدينى الذى عرضه ركيك ركاكة الهضيبى، سخيف سخافة الحوينى ويعقوب وبرهامى، وعندما أراد الحكم أن يدلف إلى الدستور وحرية الأفراد دلف بنفس منطق سليم العوا المعووج، و«المعووج» هنا عائدة على «المنطق» لا على «العوا» بطبيعة الحال، وآه من تلك الأيام التى كنا نعتقد فيها أن العوا مفكر، أو أن طارق البشرى وسطى ويفهم فى القانون، أو أن الهضيبى رجل عدل معصوب «العينين» وفى النهاية اتضح أننا كنا نعيش فى خرافة كبرى.

والآن نعود مرة أخرى لنعيش فى نفس الخرافة، وننتج نفس قصصها المملة، فتعقد الدولة صفقاتها مع أحد مصانع التطرف وهو حزب «النور» الدينى، رغم أن الدستور يحظر إقامة الأحزاب على أسس دينية، ولكن فليذهب الدستور إلى الجحيم من أجل خاطر عيون السلفيين وباقى الأحزاب الدينية التى ترفل بيننا متبخترة بثوبها الدينى!، وكلها ظنت أنها ستظل تخدعنا بتلك العبارة البلهاء التى لا أصل لها ولا معنى والتى تقول فيها «نحن حزب مدنى بمرجعية دينية» وهو نفس العنوان الخادع الذى أطلقه حزب الإخوان الدينى على مرجعيتهم، الأمر الذى يذكرنى بمقولة شهيرة تضمنها حوار مسرحية «حواء الساعة ١٢» لصاحبها الفنان المبدع المرحوم فؤاد المهندس، عندما قال للممثلة العظيمة شويكار: «إنتى موتّى» فاستنكرت شويكار هذا القول وطلبت منه أن يخفف العبارة ويقول لها: «انتقلتى إلى الرفيق الأعلى» وإلا فليقل لى أحدكم ما الفارق بين حزب دينى وحزب له مرجعية دينية، إلا إذا كان سيقول بيت الشعر الشهير: الأرضُ أرضٌ والسماء سماءُ.. والماء ماءٌ والهواء هواءُ، أو كمن يبذل جهدا جبارا ليُعَرِّفَ الماء بعد الجهد بالماء!.
وفى حوار لأحد «الدينيين الجدد» من قيادات حزب النور فى جريدة يومية إذا به لا يعترض أبدًا من فرط مدنيته على أن تقف الدولة موقفا جادا وحادا ضد الأحزاب الدينية، ولكنه يستطرد فى حواره قائلا باستغراب والدهشة تأخذ بتلابيبه: «إلا أن الجميع يجب أن يعلم أن حزب النور ليس حزبا دينيا.. ولكنه فقط حزب له مرجعية وخلفية دينية!»، فالأحزاب الدينية عند سيادته هى الأحزاب التى تشترط فى عضويتها دينا أو مذهبا معينا، وهذا تعريف منقوص للحزب الدينى، فضلا عما يتضمنه من تدليس على الرأى العام يجدر بنا تصحيحه حتى لا نؤتى من ذات الجحر مرتين.
فإذا كانت الوثائق الرسمية لحزب النور لا تتضمن نصا مكتوبا يشترط فى أعضائه دينا أو مذهبا معينا، إلا أن مرجعية الحزب الدينية بما تتضمنه من تكفير للأديان والمذاهب الأخرى، والانتقاص من حقوق أتباع هذه الأديان والمذاهب فى إقامة شعائرهم الدينية، والدعوة لأديانهم ومذاهبهم، والترشح للمناصب القيادية فى الدولة، تجعل من المستحيل على أى مواطن لا يؤمن بمرجعية الحزب الدينية المذهبية أن ينضم لعضويته طوعا.
وإذا كان الحزب السياسى يُعَرَّف بأنه «تنظيم يضم مجموعة من الأفراد تجمعهم رؤى سياسية واقتصادية ومصالح مشتركة وليست دينية أو مذهبية ويهدف إلى الوصول إلى السلطة من أجل تحقيق الصالح العام»، فالذى يجعل هذا الحزب مدنيا هو أن مرجعيته تتشكل من رؤى سياسية وأفكار اقتصادية يجتمع حولها أفراد من أديان وأعراق وألوان مختلفة، ومن ثم فهو لا يفرق بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو اللون، كما يعترف لهم بنفس الحقوق والواجبات والتطلعات، المسلم عندهم كالمسيحى فى كل الحقوق بما فيها كل درجات الولاية، والمسلم والمسيحى فى حقوقهما والتزاماتهما مثل أتباع باقى الأديان الأخرى. أما الحزب الدينى فهو يرتد بالمجتمع قرونا إلى الوراء، إذ يقدم الانتماءات الدينية على الانتماء للوطن، وهو فى ذلك يضل ضلالا كبيرا، لأنه يخلط بين الإيمان والانتماء، الإيمان بالدين والانتماء للوطن، فالفرد الحر يختار دينه لأنه يؤمن به ويعتقد أن دينه هو الصواب نفسه، ولكن الفرد الحر لا يختار وطنه، فسواء كان وطنه هو أعلى الأوطان قدرا فى العالم أو أقلها شأنا، إلا أنه ينتمى له، وهذا الانتماء يجعل من يشترك معه فى الوطن يتماثل معه فى جميع الحقوق والواجبات، ولذلك فإن علاقة الانتماء بالوطن تختلف حتما عن علاقة الإيمان بالدين، وبسبب الخلط بين الانتماء والدين استخرج الفقهاء الأوائل ما يسمى «الولاء والبراء» وهو يجعل علاقة المسلم بدينه علاقة انتماء وإيمان فى آن واحد، لذلك أصبح خطاب جماعات الإسلام السياسى يجعل من العلاقة بين مسلم الهند ومسلم مصر أقوى وأبقى وأنقى وأفضل من علاقة مسلم مصر بمسيحى مصر الذى يجاوره فى السكن ويشترك معه فى تاريخ مشترك، ولذلك أيضا قال مرشد الإخوان السابق مهدى عاكف إنه يقبل أن يحكم مصر مواطن ماليزى، ولذلك أيضا أصبحنا نعرف جميعا أن الإخوان يعتبرون الوطن حفنة تراب عفنة.
من هذا المنطلق يمكننا تعريف الحزب الدينى بأنه «تنظيم يضم مجموعة من الأفراد تجمعهم رؤية دينية مذهبية واحدة، وتتولى قيادته مجموعة من فقهاء الدين، ويهدف إلى الوصول إلى السلطة من أجل تطبيق أحكام المرجعية الدينية للحزب بقوة القانون باعتبارها الطريقة الأمثل لتحقيق الصالح العام».
من أجل هذا كله فإن هذا النمط الدينى من الأحزاب لا يعبر إلا عمن يتبع مذهبه الدينى من المواطنين، وإذا قدر لهذا الحزب أن يصل إلى السلطة فإنه لن يستطيع أن يعبر عن كل المواطنين، الأمر الذى رأيناه بوضوح عندما وصل الإخوان للحكم، فكلنا يذكر سعيهم الحثيث نحو «أخونة» مؤسسات مصر ليضمنوا فرض سيطرتهم على مقاليد الحكم، وليضمنوا من ناحية أخرى وضع رؤيتهم الدينية موضع التنفيذ، كما أن اتخاذ أى حزب مرجعية دينية يضع قيادة هذا الحزب بالضرورة فى يد الكهنوت الدينى القادر على تحديد صحيح الدين فى كل مسألة، مما يجعل منه حزبا دينيا صريحا دون أدنى شك.
الآن يجب أن يعلم الجميع أن التطابق بين أمة الدين وأمة السياسة لم يعد ممكنا، وإذا كان من المقدر أن تنهض ثلة من العلماء من غفوتها لتضع لنا تصورا مختلفا عن الإسلام، غير التصور المعتمد من القرن الأول بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، والذى لا يزال قائما حتى الآن، أقول لو وضع الجدد فهما مختلفا للدين لكان من عناصره الفصل التام بين الدين وبين السياسة ونظم الحكم، الدين نتعبد به لله رب العالمين وفقا لرؤى كل واحد دون أن يحاول إلزام الآخرين بفهمه هو، أما السياسة فهى كل ما يتعلق بشئون الحكم والعلاقات بين الناس، وفيها يصبح الجميع أمام القانون سواء فى كل الحقوق وجميع الواجبات، ومن أجل مصر الحديثة أتمنى أن يتم حسم هذا الأمر فى أسرع وقت ممكن وإنا لمنتظرون.