أجساد السمن
عشرة كيلومترات أوشك السائق أن يُتمّها، قبل أن نُحس بذلك التقلقل المُرجِف. مالت صدورنا للأمام مع ضغطة الفرملة، وبدا أن العربة القديمة كظمت سيرها رفقًا بنا. على اليمين والشمال، تنبسط الغيطان الخضراء وشجر الكافور والصفصاف. هناك ترعة طافحة بالماء، ينحصر الرصيف بينها وبين مصرف واسع. فى العربة كان الهواء واقفًا وساخنًا، والأيادى تهوى الوجوه بما وُجدَ من كتاب أو جريدة. فى الترعة صِبية يستحمون ويطرطشون، ويصنعون مرحهم فى الماء وعلى الشط المُحدد بالحشيش والغاب. صدورهم عارية مغسولة، وقماش السراويل حائل ومبلول، وملتصق بسيقانهم الليِّنة. فتح السائق بابه ولفَّ. حَملَ الاستبن، وقرفصَ على الرصيف، ودارت يداه.
وقف الولد على الشط، داهسًا رُزمة حشيش تحت قدميه. رفعَ ذراعيه، فبانت ضلوعه وشُفطت بطنه، ومن تحت سرواله برزت وتشكلت قطعة سمن صغيرة. طبَّ فى الماء، وجاء صوت «الطشة» خارقًا. ضرب ظهر صاحبه، ثم غطس وغاب إلى أن خرج عند الشط المجاور لنا، نافضًا رأسه، قاذفًا جرعات من فمه على شكل رذاذ فى وجه صاحب آخر. واحد منهم تدرجَ صاعدًا، شاقًا للماء، وبدأت مؤخرته فى الظهور فى وجوهنا، كفلقتى حبة الفول. استدارَ مرة واحدة، وكان ثلثه الأسفل فى الماء، وانثنى بسلاسة غاطسًا. السائق فى الأسفل يناغش العرق وجهه المنحوت. كنت فى الكرسى الأخير فوق العجلة المعطوبة. لم يغامر أحد بالنزول إلى جهنم الخارج. هل قال واحد إنه عطشان؟ وأين الماء؟ أشار آخر إلى طلمبة فى الأمام، قائمة ومتوارية تحت صفصافة لها شعر غارق فى ماء الترعة. زمجر باب العربة للوراء، فى سحبة من يد بيضاء، بيضاء كأن الأبيض كان غائبًا ثم ظهر فى تلك اللحظة بالذات. نزلت البنت تخطو، وتتلوى فى الجينز الأزرق. فى قدميها حذاء أرضى أحمر، مفتوح من الأمام على أصابع بيضاء، بل أشد بياضًا من اليد. ولد من الأولاد يقف لمنتصفه فى الماء، يضحك وتتلاحق أنفاسه، فتعلو وتهبط دائرتان بُنيَّتان فى صدره النابت المغسول. كنتُ مع دفقات الماء الصافى المنساب من لسان الطلمبة. وضعتْ البنت يدها فى مقدمة اللسان، وانحنت لتشرب. اعتدلتْ ومسحت وجهها بيديها، ومسحت ما حولها بنظرة شاملة غير معنية بشىء. عدلت خصلات من شعرها تحت الإيشارب. أقبلت متهادية، يدخل جسدها فى بعضه مثل كائن رخو.
السائق يلعن اليوم الأسود من أوله. هناك مشكلة فيما يبدو. الولد العارى فى الماء لم يخرج للشط منذ استدار فى لمحة. صعد اثنان ورفعا أيديهما معًا. ظهرت ضلوعهما وداسا على الحشيش معًا. ضحكا معًا ضحكة يقطر منها الماء، ثم طبشا مرة واحدة فهاجت الترعة. فى وقفتهما على الشط تتحدد قطعتا سمن تحت سروالين مبلولين، وفى استواء جسدين يرشحان بالماء. القطرات تسيح على الجسد ويشربها السروال، الذى يَنزّها بدوره على التراب فى شكل بُقَع طينية. العرق زيت لزج على الوجوه، وبين الياقات والرقاب. لو بقيت هذه الأجساد فى العربة لساحت على نار هادئة. الولد العارى يخرج بمؤخرته، ثم يجلس على الشط، واضعًا يديه بين فخذيه، ضاربًا الماء بتبادل ساقيه. وأنا.. لماذا لا أنزل وأغطس بملابسى؟ ما الذى يمنعنى؟ لماذا لا أُجرب لحظة دخولى فى الماء، دخولى على مهل، مع هذه المقاومة اللذيذة من الماء لجسد جديد جدًا على اللعبة؟ جسد ليس به من السمن سوى القليل، لكن عنده الكثير من الدهون. أفكر بالبنت ذات الحذاء الأحمر واليد البيضاء، وأُقدر أنها الأقدر على مساعدتى والصبر علىّ. لكنها ما زالت قاعدة فى الكرسى تُرطِّب على وجهها بدفتر أزرق. بدأ التذمر يظهر فى قلق الأجساد ونفخات الأفواه. امرأة كبيرة فى العمر قالت: «إحنا هانموت كده.. هو السواق بيعمل إيه كل ده؟». قال رجل فى الأربعينيات: «أنا هانزل». وقف أمام العربة مُتلفتًا، حاميًا رأسه بجريدة. البنت إياها قالت: «أحلى حاجة إننا جنب المَيّه»، وضحكت. الأولاد فى الماء صنعوا دائرة حول أحدهم، وراحوا يفعلون كأنهم يُغرقونه، وفى شبه اتفاق تنادوا خارجين بسرعة من الماء، ملتقطين هدومهم وأحذيتهم. واحد منهم جاء بصدره العارى، ولفَّ حول العربة وتكلَّمَ مع السائق الذى أومأَ برأسه. صعدوا فوق العجلات، واستووا على الشبكة الحديدية فى الأعلى. كانت سيقانهم متدلية أمام أعيننا من فتحات النوافذ، والماء يخرُّ من السراويل الغارقة والأجساد. وأخيرًا.. تحركت العربة، مُخَلِّفة وراءها، على الرصيف، خطين متوازيين من الماء.