رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتظار أفضل أيام هذا الوطن


هل نحن فى أزمة؟.. سؤال يبدو طرحه الآن نوعًا من السذاجة المُفرطة، ونحن نرى فى كل ما حولنا أزمة- فى الأسعار، وارتفاع قيمة الدولار- وصلت حد النار، يكتوى بها المواطن صباح مساء، وما زال الطريق طويلًا حتى نخرج من هذا المأزق الصعب، الذى ضاقت معه كل الحيل، وكلّت العقول فى حل أحجياته المعيشية، وسط دخول ثابتة وتكاليف تزداد أعباؤها فى كل يوم.
لكن المتأنى فى قراءة السؤال، ربما أدرك أننى لم أقصد طرح السؤال من هذه الوجهة، لأن ما هو معروف بالضرورة، لا يمكن السؤال عنه.. إنما قصدت من سؤالى: هل الحكومة مأزومة، قبل أن نكون شعبًا مأزومًا؟.. ستقول لى: وما الفرق بين الدولة والشعب فى الأزمة؟.. أقول لك إن الشعب يقع عليه عبء الأزمة ونتائجها، والحكومة هى صانعتها.. هذه هى الإجابة البديهية.. لكن حتى تلك الإجابة ليست من الدقة بمكان.
أزمة الدولة عامة تكمن فى تلك الرؤية المتناقضة بين الحكومة والشعب، حول كيفية الوصول إلى بر الأمان.. فالحكومة تعرف أن عمر الإنجاز فى حياة الأمم، يُقاس بالسنوات، بينما يؤمن الشعب بالحكمة القديمة (احيينى النهارده وموتنى بكرة)، وهو الإيمان الذى لعبت على أوتاره كل الأنظمة السابقة، التى لم تشأ أن تدخل فى مواجهة من أى نوع مع الشعب، ولم تُرد أن تصدمه يومًا، بأن تعافيه يُحتم عليه تجرع الدواء المُر، وعمدت إلى المسكنات، تجعل بها (كل شىء تمام)، بينما الانهيار يسرى فى اقتصاد هذا البلد، كما تسرى النيران تحت الهشيم، ولا أحد يرى لها دخانًا.. وكان ضروريًا، لفض الاشتباك بين طرفى الرؤية المختلفة، أن تتحلى الحكومة بالقدرة على «الإدارة غير النمطية»، التى توائم بين عقيدتها فى احتياج بناء الأمة إلى سنوات، من خلال مشروعات قومية تؤتى ثمارها على المدى البعيد، وبين حاجة الناس إلى مُتغير على الأرض، لا يحمل صفة الكمال، ولكنه يُنبئ بأن فى الأفق شمسًا سوف تبزغ، تملأ الأرض نورًا ودفئًا.. وهنا تكمن عبقرية الإدارة، الفريضة الغائبة، ولب الأزمة الحقيقى.
نحن قد نتغلب على أزمة الموارد أو شح الإمكانيات، بالاقتراض أو الهبات، كما فعلنا مع صندوق النقد، ومن خلال الأصدقاء والأشقاء، أو من مدخرات المواطنين ومساهماتهم، لكن تظل أزمة «الإدارة العبقرية» هى الإشكالية الكبرى.. فالفرق بين نجاح مشروع وإخفاق آخر، يكمن فى عقل إدارة هذا المشروع أو ذاك، بل إن «عقل الإدارة» منوط به اختصار الزمن فى عمر النجاح، وليس الاكتفاء بتحقيق ذلك النجاح.. وأذكر أننى كتبت فى مثل هذه الأيام، قبل عدة سنوات، عندما وعد الرئيس السيسى بأنه سيزف للناس، بعد عيد الفطر آنذاك، مشروعًا قوميًا، كان يقصد به حفر قناة السويس الجديدة.. وقتها كتبت مقالًا بعنوان «الإدارة قبل العمارة»، قلت فيه ما معناه، إنه بغض النظر عن طبيعة ما سيعلن عنه الرئيس من مشروعات، قد تتمحور حول أفكار كذا أو كذا، فإن الأهم فى هذا الصدد، هو العقول التى ستدير هذا المشروع أو ذاك.
قصدت بكلامى الإدارة التى تدرك ما نفعل، وتملك الرؤية الشاملة لما نفعل، وتمسك بأدوات الفعل المؤدى إلى النتائج المرجوة.. الإدارة التى تُحسن اختيار الكوادر المسئولة عن الجزئيات المختلفة للعمل، بعيدًا عن أغراض الهوى.. الإدارة التى تملك إرادة مكافأة المُحسن، والقدرة على محاسبة المُخطئ واستبعاده، وتلك نقطة جوهرية.. فكم من مدير أو هيئة ما، أساء اختيار القائم على المهمة، ولم نحاسبه أو نحاسبها.. وكم من مسئول تم اختياره وهو غير كفء للمهمة الموكولة إليه، ولم نُحاسبه على قبول المسئولية على غير كفاءة منه أو مهارة.. وكم من مسئول أدار منشأة، فأهدر إمكانياتها، وأضاع بعضًا من عمرها، وفرصًا بديلة كانت أمامها، ولم نتوقف أمام كشف حساب إنجازاته أو إخفاقاته، ولم نوجه له، ولو «لومًا»، حتى من قبيل ذر الرماد فى العيون، وبيان للناس بأن هناك من يراقب ويحاسب، فيدفع ذلك إلى الحذر، والتفكير ألف مرة، قبل قبول المنصب أو رفضه، فهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، بل هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون؟!.. لا يستويان.
سوء الإدارة هو الذى يجعل من وزارة جزيرة منعزلة عن غيرها، بل يجعل من إدارات وهيئات كل وزارة جزرًا بعيدة عن بعضها، لا تصب جميعها فى نفس المصب، فتضيع الجهود سُدى، وتذهب الإمكانيات هباءً.. بل إننا لم نؤمن بعد بـ«المسئولية بالتبعية» عن بعض قضايا الفساد، التى يرتكبها بعض من ينتمون إلى كيان ما، فيكون كبيرها الأولى بالمساءلة، فجِذر الشجرة هو من يسقى الساق والفروع والأوراق، واستمرار الرأس بعد فساد الأطراف، يُهدر الثقة فى الأداء والاطمئنان إلى المستقبل.. صحيح أن جهود هيئة الرقابة الإدارية كبيرة فى مواجهة ذلك، لكن إبراء الحكومة ذمتها يكون ضروريًا فى كل الأحوال.
سوء الإدارة هو المسئول عن شعور الناس بالأزمة، عندما تتهاون الحكومة فى المراقبة والضرب على أيادى الخارجين عن اتفاق الناس والتفافهم حول مشروعاتهم، المستغلين لحاجاتهم خلال الأزمة الاقتصادية دون مساءلة.. فمن الممكن أن يتجرع المواطن الدواء المُر لعلاج أوجاع وطنه، إذا رأى أن الكل «فى الهم شرق»، دون تمايز طبقى أو مهنى.. فالأمة التى تخوض حرب البناء والبقاء، عليها أن تفرض قوانين تلك الحرب على الجميع دون تفرقة، ومن خرج عن الإجماع، استحق العقاب، بقبضة من حديد، عمياء، لا ترى إلا العدل بين أبناء هذه الأمة، وعلى الكل أن يتقاسم العنت، ويتحمل نصيبه من تبعات المسئولية.. ولا يكفى هنا متابعات وتعليمات رئيس الوزراء، الذى يجب أن يتفرغ لاستراتيجيات العمل فى الدولة، وهناك من هو مسئول عن المتابعة والرقابة، وهم أولى بإنزال العقاب على الذين يمتصون دماء الناس، ألا من حسيب؟.. فهل يُعقل أن يكون سعر البيع للمستهلك، من الخضروات والفواكه، واللحوم والأسماك، أضعاف ما هو عليه فى سوق العبور، كما تحدث بذلك أحد مسئولى هذه السوق عبر التلفاز؟!.. ففى ذلك ظلم للحكومة التى ارتضت هى أصلًا بظلم نفسها قبل أن تظلم المواطن، عندما تهاونت إداراتها المسئولة فى ضبط الأسعار ومراقبة الخارجين عليها، وتركت الناس نهبًا لكل جشع متجبر.
فى الزيادة الأخيرة لأسعار المحروقات، رأيت وعيًا حكوميًا، لأول مرة، عندما مهدت إعلاميًا لهذه الزيادات، بعرضها الأسعار العالمية لسعر برميل خام برنت، لكن الذى أخفقت فيه الحكومة، هو الضبط الحقيقى، حتى هذه اللحظة، لسعر أسطوانة البوتاجاز، مثلًا، الذى حددته الزيادة الأخيرة بخمسين جنيهًا، وتباع فعلًا بسبعين جنيهًا، ربما أكثر أو أقل قليلًا، تبعًا لمنطقة التوزيع ومستوى معيشة أهلها.
أخلص إلى القول بأن الإدارة غير التقليدية هى من تخطط مشروعاتها ببراعة، وتقوم على تنفيذها فى أقل زمن، وبأقل تكلفة، والأهم من ذلك مراقبة الأداء وتأثيره على المواطن، وحساب تكاليف الثمار والالتزام بها، دون استغلال زيادة أو نقصان.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.