رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والمريد «4-5»


تخلصت السيدة من كثير ممن ظنتهم يثقلون قلبها، أشخاص قسوا عليها يومًا، عكروا صفوها، لكنها لاحظت أن حجم قلبها يقل كلما أومأت للشابة بأن تزيح أحدهم من المنضدة وتلقيه فى سلة للمهملات، احتفظت بأحفادها وبأبنائها، أمها، أبيها.
نبهتها الشابة أن قلبها لن يتسع لأكثر من شخص واحد، نظرت للمنضدة، كان المتبقى المرحوم زوجها «حسن» والشيخ «حسين»، سألت الممرضة أن تعيد ترتيب الأشخاص فى قلبها، وأن توفر مساحة للرجلين فهما أقرب الناس إليها.
أجابتها الشابة فى حسم:
- مهمتنا أن نمحى ما يضايقك، ولكن لا نستطيع زيادة مساحة قلبك.
لماذا تأخرت فى اختيارها؟
تعرفهما منذ عرفت الحياة، كانا من أبناء عمومتها، لماذا كانت عيناها تمر عليهما سريعًا؟ اعتقدت أن وجودهما فى قلبها شىء بديهى وليس محل اختبار. ربما، لا تستطيع أن تنسى أنها كانت تميل أكثر للحديث مع «حسين» فهو طيب، ودود، متفهم.. يظهر اهتمامه بها، فيحضر لها المجلات التى تحب قراءتها من المدينة، كانت وما زالت تستشيره وتستأمنه على أسرارها. وكانت دراسته فى جامعة الأزهر تضفى عليه هالة، لكنه لم يحدثها فى شىء خاص، شىء متعلق بهما، كانت تلاحظ تردده وحيرته والكلام المعلق فى عينيه، كانت تنتظر مبادرته.. ما لا يبرح روحها حالة الانتظار التى كانت عليها.
على عكس زوجها الذى كان قادرًا دائمًا على مفاجأتها، اكتفى من التعليم بأساسياته، واهتم برعاية أرض والده، وامتد نشاطه لتجارة الحبوب، لا يستقر فى البلدة، دائمًا تحيطه الشائعات، كانت تشعر باضطراب ولا تهدأ روحها عندما تراه. جرىء، وغامض، لا يتوقع أحد تصرفاته، تعلقت روحها به، بغموضه، بما لا تعرفه عنه، كانت تشعر أن «حسين» كتاب مفتوح تعرف كل سطوره، لكن «حسن» كان مغامرة، وثبة لعالم لا تعرف إلى أين سيأخذها، لم تستطع أن تحكى لأحد عن الشك والحيرة والقلق الذى سببه لها زوجها، تعلقت به، أخذها لعالم من القلق والخوف أثناء سفره، الأقاويل عن زيجاته المتكررة فى أكثر من بلد، تجارته التى تنمو والأموال التى تزداد فى يده وبعاده فترات طويلة، تجعل تلك الشائعات تعصر قلبها، لكن عودته بصخبه والحياة التى يبثها فى روحها كانت قادرة على ازالة كل الهموم.
عاشت حياتها معه على طرفى نقيض ما بين نعمة ودفء حضوره وقلق وشك غيابه. لسنوات ليست قليلة ظلت تنتظر امرأة تدق بابها وتطالب بحقها وحق أولادها فى ميراثه. ربما تكون هذه الأيام هى أهدأ أيامها بعد أن عرفت له مستقرًا.
لم تستطع حتى فى أشد أوقاتها ضيقًا أن تلوم نفسها، تعلم فى يقينها أنه لم يكن أمامها خيار آخر، حتى «حسين» لم يظهر أى حزن أو غضب أو كسر خاطر لخطبتها لابن عمه، وظلت صداقته لـ«حسن» مستمرة بعد زواجهما، وكان يقوم على قضاء ما يحتاجون إليه فى غيابه، حتى بعد وفاته ظل محافظًا على زيارته اليومية فى الصباح كى يطمئن على أحوالها والأبناء.
هل هى حقًا أمام اختبار أم الاختيار محسوم؟
هل تمنحها نفسها تجربة جديدة؟ هل تقدم هى وتبادر بحركة فيما بدا لها أنها لعبة شطرنج.
عندما يتفرع الطريق ويكون عليها أن تختار.. عادة ما كانت تختار غير المتوقع. نظرت للرجلين المترقبين أمامها على المنضدة. مدت يدها وأشارت للشابة أن تختار الرجل الذى منحها حياة حقيقية.