رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصنع الوجوه المستعارة


فى مكان سرمدى لا نستطيع أن نصل إليه، وعند نقطة الزمن صفر، جلس أديبان مصريان يتحدثان، أما الأديب الأول فهو يوسف إدريس، والأديب الثانى هو يوسف السباعى، كانا ينظران للدنيا كلها، ماضيها وحاضرها.
بعد فترة سكون دامت بينهما قال يوسف إدريس للسباعى: انظر يا رجل، ألم تر ما حدث؟
قال السباعى: هه ماذا حدث؟.
قال إدريس: ذات يوم فى بلادى فى زمن قديم سابق على ثورة يناير، وفى قول آخر «فى زمن سابق على عصر مبارك» قام رهطٌ من رجال الأعمال وخبراء السياسة وعلماء النفس بافتتاح مصنع للوجوه المستعارة، فقد حدث أن ضاق الناس من وجوههم التقليدية وفشلت كل الحلول التى تجعلهم راضين عن تلك الوجوه التى منحها الله لهم! سخر بعضهم من القول المأثور بأن الله يعطى الإنسان الوجه الذى يستحقه، ورفض البعض الآخر القول المشهور بأن الإنسان لا يستطيع أن يكون إلا نفسه، وثبت لديهم فشل فكرة مصنع صفات البشر الذى كتبتَ عنها منذ زمن.
قال السباعى: بالطبع يا صديقى هل تذكر روايتى أرض النفاق، وقد كان أثر حبوب الشجاعة يزول بعد ساعات قليلة، وكانت الطامة الكبرى عندما يزول أثر حبوب النفاق مما ترتب عليه حدوث كوارث اجتماعية.
استطرد إدريس: كان الحل الأمثل هو افتتاح مصنع للوجوه المستعارة، إذ يكفى أن يحصل المواطن على الوجه الذى يريده، يستبقيه معه المدة التى يريدها ويتخلص منه فى الوقت المناسب له، ولكن من ذا الذى يستطيع أن يصنع وجوهًا ذات خلطة سحرية لا تخيب أبدًا؟، ظل الأمر فترة من الزمن سرًا من الأسرار القومية التى لا يجوز الحديث عنها فى أى وقت من الأوقات، وعندما تسرب الخبر إلى أحد الصحفيين تم اختطافه ووضعه فى برميل به مواد كيميائية فكان أن ذاب جسده تمامًا وكأنه لم يكن، وجاءت اللحظة الحاسمة وتم الانتهاء من تشييد مصنع الوجوه وبدأت خطوط الإنتاج عملها، وتم طرح الوجوه المستعارة على رجال السياسة، والغريب أن الإقبال فى بداية الأمر كان على وجوه الشجاعة، فرأينا بعض الفئران تتفق مع مبارك على أن تظهر أمام الناس بمظهر الأسد الهصور الذى يزأر فى وجه مبارك، وما فعلوا ذلك إلا لكى يعطوا انطباعًا بأن نظام مبارك هو الذى أسس الديمقراطية فى العالم، ولكن سرعان ما كسدت تجارة وجوه الشجاعة وتوقفت خطوط إنتاجه، وأصبحت الوجوه الوحيدة التى يتم إنتاجها هى وجوه النفاق، ومن خلال تلك الوجوه تم تقسيم مصر على مجموعة من رجال الأعمال، فهذا لشركات الحديد، وذاك لشركات الأغذية، وفلان لمصانع السكر، أما علان فهو للأسمنت، والسيد الفلانى سيحتكر المدن العمرانية، أما الآخر فيحصل على الحق فى إقامة كومبوندات السادة الكبار، وهلم جرَّا، وكانت التجارب جد مثيرة وفقًا لما سأحكيه لك.
قال السباعى: قل يا ملك الحكايات وساحر القصص.
قال إدريس: كان النفاق السياسى هو بوابة بعض الخاملين من أنصاف المتعلمين للوصول إلى مكانة كبرى، فعندك مثلًا المنافق الشهير «زكى قدرة» صاحب أول وجه تم إنتاجه من وجوه النفاق السياسى، وهو وجه متعدد الأنظمة، وفى لمح البصر بعد أن كان الرفيق «زكى قدرة» أحد رموز اليسار المصرى إذا به يقوم بالانحناء وكأنه يركع لله ثم أخذ يقبل يد السيد جمال مبارك نجل رئيس الجمهورية الذى كان يحلم بالجلوس على كرسى الحكم، وأخذ «زكى قدرة» فى كل أجهزة الإعلام يتحدث عن عبقرية جمال مبارك وقدرته الفذة على إنقاذ الاقتصاد المصرى، وبعد جهد كبير استطاع «زكى قدرة» الحصول على الإنتاج الثانى من وجوه النفاق وكان فى الحقيقة أكثر تميزًا من الإنتاج الأول إذا كان ثلاثى الأبعاد، ومن خلاله استطاع أن يصبح شريكًا لابن أحد رموز نظام مبارك فى أعمال تجارية قفزت به إلى مصاف المليونيرات، وبعد أن قامت ثورة يناير وظهر أن حكم مبارك إلى زوال كان «زكى قدرة» هو أول من ارتدى القناع الجديد للنفاق وهو وجه يتخطى قوانين الجاذبية، إذ قدم بلاغات للنائب العام ضد حسنى مبارك وولديه ورموز نظامه، وبعد جهد جهيد حصل «زكى قدرة» على الإنتاج الرابع المُحسن لوجوه النفاق وأخذ ينافق به المجلس العسكرى ثم جماعة الإخوان، وفى زمن الرئيس عبدالفتاح السيسى انقلب على السابقين وأصبح من أكبر المؤيدين، والغريبة يا أستاذ سباعى هو أن النظام الحالى لمصر يعلم كل أوجه هذا الشخص ويعلم أنه من الممكن أن ينقلب عليه ذات يوم، إلا أنه لا يزال يستخدمه بشكل غريب.
قال السباعى: وهل من غيره؟
قال إدريس: نعم، معظم مجموعة رؤساء الأحزاب القديمة لم تكن بعيدة عن مصنع وجوه النفاق، فكلها تقريبًا كانت تتغزل فى حسنى مبارك وتناشده أن يجلس معها ويعطيها مساحة ولو صغيرة فى البرلمان، وبعد الثورة إذا بها كلها تصبح أحزابًا ثورية أو داعية للثورة، ولك أن تستمع للمحامى الكبير الذى يقول فى كل القنوات الفضائية إنه كان أحد أكبر المعارضين لمبارك لتعرف أنه حصل على وجه متميز من وجوه النفاق، فالكل يعرف كم من الأيام قضاها ساهرًا يعد الدقائق والساعات ينتظر لحظة يقبل فيها مبارك أن يقابله! ويرضى عنه.
أما أستاذ العلوم السياسية فله قصة، إذ كان إحدى الشخصيات التى اعتمد عليها جمال مبارك فى صناعة خطابه السياسى، وبعد أن حصل هذا الأستاذ على وجه معدل للنفاق استطاع أن يشق به طريقه بسرعة البرق لكى يكون عضوًا فى لجنة السياسات، وبلكنته الأمريكية وشعره الذى ينسدل على قفاه ظنه الناس شكلًا من أشكال الحداثة، ولعله يكون عبقريًا فيقدم لنا نموذجًا للشخصية السياسية المثقفة الخلاقة، ولأن مصر فيها العجائب فقد رأينا بعد ثورة يناير هذا الأستاذ وهو يرتدى وجهًا جديدًا للنفاق كى يدخل به عالم الثورة الجديدة، وفى غمضة عين أصبح أحد رموز الثورة ومنظريها، ثم تبرأ بصلافة وغرور من صلته بجمال مبارك، فقد كان وجهه الجديد خليطًا بين النفاق والوقاحة. ولا أظنك ستهتم يا يوسف بك السباعى برؤساء تحرير الصحف فى عهد مبارك، بعضهم غاب عن الساحة تمامًا والبعض الآخر ممن حصلوا على وجوه النفاق استطاعوا التسلل للنظام الجديد، بل إن عددًا منهم أصبحوا رموزًا للهيئات الوطنية للإعلام، وبعضهم نال عضوية البرلمان فى القوائم الوطنية التى تم إعدادها، ولك أن تدخل إلى عالم رجال الأعمال الكبار لتعرف أن من كانوا سببًا من أسباب الفساد فى عهد مبارك استطاعوا الحصول على نسخ حديثة من وجوه النفاق، ومن ثم أصبحوا يتقلدون مكانة مرموقة فى عهد النظام الجديد، والبعض منهم أصبح مثل «وكلاء الفنانين» يقوم بالإنفاق على بعض القوائم الانتخابية ليصبح له فى مستقبل الأيام عدد كذا راس فى البرلمان، وبهم يستطيع أن يقضى مصالحه، فنحن الآن لسنا فى زمن العضو الفرد الذى يسعى لتحقيق مصالحه، ولكننا فى زمن «الكوتة» وبمقدار عدد الأعضاء الذين معك تستطيع امتلاك ما تريده من مصر.
وهنا أصيب يوسف إدريس بالهلع الشديد عندما رأى صديقه فى العالم السرمدى يوسف السباعى وهو يخلع وجهه، نعم يخلع وجهه ويُظهر وجهه الحقيقى، فقد كان الجالس مع إدريس هو أحد الروائيين الذين ارتفع شأنهم فى زمن مبارك عندما كتبوا روايات النميمة والجنس والشذوذ المغلفة بالمعارضة، ولكنه استطاع التسلل لعالم إدريس خلسة وارتدى قناع يوسف السباعى، وهنا مات يوسف إدريس للمرة الثانية.