رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطة النبى لبناء المدينة فى 5 أشهر


سعى النبى، صلى الله عليه وسلم، خلال الشهور الخمسة الأولى من هجرته إلى المدينة إلى العمل على إصلاح الأوضاع الداخلية فيها، فى ظل أوضاع معقدة جدًا، فالمهاجرون عانوا اضطهاد قريش ١٣ سنة وهاجروا إلى المجهول بلا مأوى، أو مال، يعانون ألم فراق الأهل والوطن، والوظائف المتاحة أمامهم بالمدينة لا تناسبهم فهم تجار، وأهل المدينة حرفتهم الزراعة، ما أدى إلى ظهور فقراء جدد «أهل الصفة»، وكان على الأنصار أن يزرعوا لأنفسهم وللمهاجرين ما زاد العبء عليهم.
بين الأنصار، كانت العلاقة بين الأوس والخزرج تتسم بالتوتر على الرغم من دخولهم الإسلام، حيث ظلوا يتقاتلون لمدة ١٠٠ سنة، فضلًا عن أن هناك غير مسلمين، ومنافقين «٣٠٠ شخص»، و٣ قبائل من اليهود تتحكم فى الاقتصاد.
كان الوضع المعيشى صعبًا للغاية، حيث هناك أزمة مياه شرب، نظرًا لأن موارد المدينة المائية قائمة فى الأساس على مياه جوفية، وأغلب الآبار إما أنها مردومة أو غير صالحة للشرب.
نفذ النبى، خمسة حلول إبداعية فى غضون خمسة أشهر: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، بنى المسجد، أنشأ سوق المدينة، مهد الطرق، وحفر ٤ آبار وربط المدينة ببعضها بعضًا «بنية تحتية»، ووضع دستور المدينة.
كان من نتائج المؤاخاة تحول المدينة إلى مجتمع زراعى- تجارى، فالمهاجرون تجار، لكنهم تركوا أموالهم فى مكة، رفضوا أن يعيشوا عالة على الأنصار، فزادت الرقعة الزراعية، مع ما يتطلبه ذلك من بذل جهد وتعب، ومن ثم بدأ المهاجرون فى تصدير الإنتاج إلى خارج المدينة، وكانوا يتقاسمون الأرباح.
سأل المهاجرون عن المنتج الذى تتميز به المدينة، ومثلما قامت نهضة ماليزيا على فكرة مماثلة تعتمد فى الأساس على زيت النخيل، فقد كان معروفًا عن المدينة أنها تشتهر بالتمر، وهو أهم محصول لدى العرب فتضاعفت زراعته، لتتحول من مجتمع مستهلك إلى مجتمع مصدر.
الأمر الثانى: بناء المسجد، الذى كان دوره أكبر من كونه مكانًا للصلاة، فهو مكان لبناء الإنسان، مدرسة تعليمية، فيه يتم تنظيم دروس لمحو الأمية، وملتقى لأصحاب العقل والفكر، خرجت منه الأفكار الإبداعية، ومنبر إعلامى للمجتمع، ومستشفى لعلاج الجرحى، حيث أقامت فيه السيدة رفيدة- أول ممرضة فى الإسلام- خيمة لعلاج الجرحى، كما كان هناك مكان للنساء، وملحق بالمسجد مكان لإيواء الفقراء والضعفاء «أهل الصفة»، ومركز تعليم حرفى.
الأمر الثالث: بناء السوق «الاقتصاد»، عمل النبى على بناء سوق واسعة، كأنه يقول لنا قبل الاقتصاديين الكبار إن المال ليس عصب الحياة، لكنه إحدى أدوات تذليل صعوبات الحياة. وقد استمرت هذه السوق قرونًا طويلة، ويعرفها أهل المدينة حتى الآن.
عندما بنى السوق، جاء قائد اليهود كعب بن الأشرف وهدمها، لكن النبى لم يرد على استفزازه.. أعاد بناءها فى مكان جديد أفضل.
كان اليهود يسيطرون على اقتصاد المدينة، وكانت سوق «بنى قينقاع» سيئة السمعة، حيث الغش والاستغلال والتعامل بالربا، لكنها كانت السوق رقم واحد، لأنه لا توجد غيرها، فلما بنى النبى السوق، انتعشت سوق المسلمين وجذبت حتى اليهود، وتحولت إلى مركز جذب للقبائل المحيطة بالمدينة.
كانت كلمة السر فى نجاحها أحاديث أمانة الأسواق، «التاجر الأمين الصدوق»، «من غشنا فليس منا»، «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه»، فنافست سوق المسلمين أسواق اليهود ومكة لأول مرة.
كان النبى صاحب خبرة فى التجارة، ألغى الضريبة، لا يؤخذ فيها خراج، واختار السوق فى مكان واسع، فيه مكان ربط الرواحل والجمال، كان الرجل يأتى سوق المدينة فيربط راحلته بيسر، كما أنها كانت تُرى من مدخل المدينة، ومنع النبى التسول فيها.
الأمر الرابع: تمهيد الطرق وإصلاح البنية التحتية، فالمدينة كلها مستنقعات، ما كانت سببًا فى انتشار الأوبئة، وكانت أطراف المدينة منفصلة عن بعضها بعضًا، فضلًا عن أن هناك مشكلة مياه شرب خطيرة، فأخذ النبى يردم كل المستنقعات، ومهد الطريق من المسجد للسوق.
مسجد النبى فى وسطها، وبيوت الصحابة حوله فى كل اتجاه، كان هناك شارع ممتد من المسجد إلى جبل أحد، وآخر من المسجد إلى الجنوب «قباء»، وهذا الشارع يؤدى للسوق، وشارع ثالث يخرج إلى البقيع.. كل هذا والنبى لم يكن معه سوى ٥ آلاف درهم، ليؤكد أن الفقر ليس فقر المال، لكنه فقر النفوس، فالفقر الإنسانى أسوأ من الفقر المالى.
أعاد النبى حفر الآبار المردومة بالمدينة، كانت هناك بئر «بضاعة» تُلقى فيها القاذورات، فمنع النبى ذلك، وقام الصحابة بتنظيفها، لكن فى الأصل هو ماء نجس.. الماء لا ينجس وطهرها وتوضأ منها. فلما توضأ منها استخدمها الصحابة.
البئر الثانية بئر «أريس» التى سقط فيها خاتم النبى، والبئر الثالثة بئر «رومة» التى اشتراها عثمان بن عفان بـ٨ آلاف درهم، ووهبها للمسلمين وغير المسلمين يشربون منها بلا مقابل.
غيّر اسم المدينة كان اسمها «يثرب»: الطاردة، لتصبح المدينة.. من المدنية، لم يسمها المحمدية، ولم يضع لافتة دينية، سماها أسماء كثيرة، مثل: طيبة، طابة، المحبوبة، دار السلام، دار الإيمان، دار الأنصار، مدخل صدق.
الأمر الخامس: أعد النبى وثيقة للتعايش بين كل أطياف المجتمع فى المدينة.. وضع دستور المدينة، الذى مهد له بحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وكلمة الأخوة فى اللغة مطلقة، المقصود بها الأخوة الإنسانية، ليست مقيدة بالمسلم.
يقال إن دستور النبى أول دستور عرفته البشرية فى التاريخ، أول دستور مكتوب عرفه العالم، كان هدفه تحقيق فكرة المواطنة، وهى المساواة فى الحقوق والواجبات لكل أبناء الوطن بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو عرقهم.
سماها الوثيقة، يعنى عهدًا وعقدًا موثقًا لا يقبل الفسخ، أهم بنوده:
- البند الأول: المهاجرون من قريش وأهل يثرب وبنى الأوس والخزرج وبنى النجار وبنى عوف أمة واحدة، أيديهم على كل من بقى عليهم ظلمًا أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا ولو كان ولد أحدهم، سمى القبائل ولم يستخدم عبارة المسلمين فى الوثيقة، لأن هذا المقصود بالمواطنة.
- البند الثانى: اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، «حرية الاعتقاد»، اعترف لليهود بأنهم جزء من المجتمع.. أمة مع المؤمنين.
- البند الثالث: على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.. «وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الوثيقة وإن بينهم النصح والبر دون الإثم»، البر فوق العدل.
الدفاع عن أرض الوطن.. يشارك فيه الجميع، مسلمون وغير مسلمين.
- البند الرابع: إذا حدث بين أهل هذه الصحيفة شجار أو نزاع يخاف فساده فإن مرده إلى محمد رسول الله، فلا بد من مرجع وإلا سادت الفوضى. الدستور جعل وجود الدين ضمانة للحقوق وليس تهديدًا لها، فالدين داعم للوطن وليس مهددًا له.