رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نجيب الريحاني.. الخلطة المبهرة من الضحك والبكاء


رحل «نجيب الريحانى»، فى ٨ يونيو ١٩٤٩، ٦٩ عاما، مضت دون أن يأتى الزمان، بفنان مثله، يهزنا من الأعماق، يبهجنا، ويبكينا، برؤية فلسفية، راقية. بالأمس، شاهدت ربما للمرة الثلاثين، فيلم «سى عُمر». وكل مرة، أكتشف شيئا جديدا، وأضحك بملء قلبى.. مع أننى فيما يخص الكوميديا، صعبة الإرضاء جدا.
٦٩ عاما و«الريحانى»، تركنا أرضا مستباحة، لأدعياء الفن، وزعماء الكوميديا الهابطة، شكلا، ومضمونا، الذين «يستخفون»، دمهم، و«يستخفون» بعقولنا. يبهرنى نجيب الريحانى ٢١ يناير ١٨٨٩ – ٨ يونيو ١٩٤٩، فى أنه «خلطة» عجيبة، من امتزاج الضحك، والبكاء، فى ضفيرة واحدة متشابكة، اسمها «الإبداع». لكن هذه «الخلطة»، هى اللوحة الحقيقية للوجود الإنسانى. ذلك الوجود الذى يأبى إلا أن يدهشنا، حين من قلب الحجر، ومن الأرض الطين، تخرج السنابل والورود. ومن سم الثعبان يُصنع الدواء الشافى.
إن العمر الفنى الذى عاشه، «سى عمر»، ٣٣ عاما، من عام ١٩١٦، وحتى ١٩٤٩. ومع ذلك، ترك ميراثا هائلا من الأعمال الفنية. أغلبها المسرحيات، التى أسست ميلادا، لمسرح مصرى، واضح الملامح، عميق الرؤية، وطنى الانتماء، مع «بديع خيرى»، ١٨ أغسطس ١٨٩٣ – ١ فبراير ١٩٦٦، رفيقه فى الكفاح والنجاح. لم يحب «الريحانى» السينما، كما أحب المسرح. لكنه أدرك أن الأفلام السينمائية، تبقيه فى الذاكرة، وتقدمه للأجيال المتعاقبة، التى لم تشهده على المسرح.
فى فيلم «لعبة الست»، يقول حسن، لزوجته لعبة: «النفس الجشعة والقلب الجحود والعينين اللى مفيهومش غير الزيف والغدر والخيانة، أبيعهم رخيص.. رخيص أوى.. من غير فلوس.. أبيعهم من غير حاجة.. أبيعهم وأعتبر نفسى أنا الكسبان». فى فيلم «غزل البنات»، يهمس الأستاذ حمام، ناعيا حظه: «أنا أنا لو من ١٨ سنة بعلم كلاب، كان زمانى بقيت من الأعيان».
هذان المشهدان يؤكدان قدرة الريحانى البارعة، على تجسيد الكوميديا الساخرة، فى آن واحد، مع ذروة المأساة. وإذا لم يكن هذا هو الفن، فماذا يكون؟. دخل فيلم «غزل البنات»، قائمة أهم مائة فيلم مصرى. وهو الفيلم الذى مات الريحانى، قبل أن يراه على الشاشة.
لا أعتقد أنها صدفة، أن يجمع الفيلم، أغلب نجوم هذا العصر الذهبى. ليلى مراد.. أنور وجدى.. محمد عبدالوهاب.. يوسف وهبى.. فردوس محمد.. عبدالوارث عسر.. محمود المليجى.. فريد شوقى.. زينات صدقى.. استيفان روستى. قناعتى أن كل هؤلاء النجوم العظماء، قد شعروا بأن الريحانى، راحل قريبا. فكان اجتماعهم، بمثابة «وداع»، وأيضا «تكريم».
فى بدايات حياته، ١٩١٠، عمل نجيب الريحانى، بشركة «السكر»، بنجح حمادى، فى صعيد مصر. لا عجب أن أعماله فى المسرح، وفى السينما، تأليفا، وتمثيلا، كلها «حلوة» المذاق. أفتقد «الريحانى»، كما أفتقد كل الأشياء الجميلة، الأصيلة، التى هجرتنا، وتركتنا نتحسر، كيف كانت «مصر»، وماذا الآن أصبحت؟.