رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعليم الحرية «2»


تحدثنا فى مقال سابق عن الجدل الدائر حول قضية التعليم، بمناسبة قرض الخمسمائة مليون دولار، من البنك الدولى، ومشروعات الوزير د. طارق شوقى، الخاصة بعلاج الخلل الفادح فى هذا المجال.
الحق أن «الفريضة الغائبة» فى قضية التعليم، التى غابت عن المتعاركين، ليست مسألة تعليم اللغات، أو استعمال الأدوات التكنولوجية الحديثة، أو المنشآت التعليمية، أو غيرها من نقاط، وهى أمور فى حد ذاتها مهمة، ولكن الأهم فى قضية التعليم، والذى غاب عن ساحة الجدال هو: ما الذى نريد أن نعلمه، بالأساس لتلاميذنا وأبنائنا؟!. أى أن جُلَّ الحديث كان يجب أن ينصب ليس على «شكل» عملية التعليم، وإنما على «الجوهر» الناقص فى عملية التعليم، التى نريد لهم أن يتحصلوا عليه؟!، وما الأسس المفتقدة فى عملية بناء شخصية الدارس، التى تجعل منه مواطنًا صالحًا، وإنسانًا نبيلًا، وكائنًا مبدعًا، متكاملَ التكوين النفسى، ومتوازن الشخصية، منتميًا لأرضه وحضارته وتاريخه، وقادرًا على اجتراح المعجزات من أجل تقدم شعبه وأمن وطنه ونهوض أمته، وهو الأمر الذى يتبدى بوضوح فى مضامين ونظم التعليم فى الدول المتقدمة.

وليس عيبًا، بل من الضرورى، فى هذا السياق، أن نتعلم من رؤى غيرنا وأفكارهم، وفى مقدمتهم البروفيسور «باولو فيريرى»، الذى وصفه شيخ التربويين العرب والمصريين، الراحل الكبير د. حامد عمّار، باعتباره واحدًا من أعظم فلاسفة التربية إن لم يكن أعظمهم، ممن أفرزهم العالم الثالث فى القرن العشرين.
ولـ«باولو فيريرى»، (١٩٢١ـ١٩٧٧)- البرازيلى المولد والنشأة، الذى عانى الفقر فى بداية حياته، وتعرض للاضطهاد والنفى من النظم الديكتاتورية الحاكمة لسنين طويلة- ثلاثة كتب معروفة على مستوى العالم: «تربية المقهورين»، و«تربية الأمل»، ثم «تربية الحرية» الصادر مؤخرًا عن هيئة الكتاب، بترجمة دقيقة وبديعة لـ«د. أحمد عطية أحمد»، وفيه يرى أن الهدف الرئيسى لعملية التعليم، يجب أن يتجاوز مضمونه مشكلات الإعداد الفنى، «كما يجرى العمل لدينا»، إلى الارتباط بـ«جذر التشكيل الأخلاقى للذات الإنسانية»، وهى مهمة التعليم الأساسية التى يُركِّزُ عليها «فيريرى»، باعتبار التعليم «نشاطًا إنسانيًا محضًا يتصف به الكائن البشرى دون غيره من الثدييات»، ومن هنا فإن علينا تعليم النشء نهج الممارسة الديمقراطية أسلوبًا للحياة، وهو خيار «فى قلب الحرية» كما يرى «فيريرى»!.
ويضع «فيريرى» ما يسميه «التعليم البنكى»، فى مواجهة «التعليم التحريرى»، فالمعلم يُمثل فى الطريقة «البنكية» مصدر المعرفة الوحيد، هو الذى يتكلم ويشرح، والتلاميذ يستمعون وينصتون، وهو الذى يودع المعرفة فى عقولهم وعليهم أن يختزنوها، وهو الذى يسأل وعليهم أن يُجيبوا من مخزون ما أودعهم من رصيده المعرفى. ومن ثم فإن موقف التدريس فى الفصل وفى غيره مما يسود جو المدرسة من أوامر وعلاقات تسلطية أحادية يتحرك من أعلى إلى أدنى، ومن ثم، يعكس نمط العلاقات غير الديمقراطية فى المجتمع، ويؤدى إلى ترسيخه وإعادة إنتاجه، كما يقول «فيريرى»، ويشرح «د. حامد عمّار».
وفى مقابل هذا يرى «فيريرى» وجوب أن تقوم عملية التعليم على أساس «المنهج الحوارى»، الذى يشجع فضول المتعلم ورغبته فى المعرفة، والتساؤل الرحب والتفاعل الحقيقى، لا الصورى، بين المعلم والمتعلم، وعلى ممارسة التفكير النقدى فى فهم الواقع المعيش، والاستقلالية فى اتخاذ القرار، والقدرة على الاختيار، ذلك لأن المشكلة الرئيسية ليست فى الإجراءات الشكلية، وليست فى تعميم استخدام الكمبيوتر من عدمه، وإنما تكمن فى الاختيار بين تكوين الإنسان الفاعل والقادر على التمييز والاختيار الحر البنّاء، أم توليفه لكى يكون ملائمًا للسوق كآلة بشرية فاقدة الإرادة والوعى بالدور الإنسانى.. البشر أم الحجر؟. هذه هى القضية!.