رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحِنُّ لرائحة رمضان


أحِنُّ لمائدة أمى عند مغرب رمضان، كحنينى إلى تلك الأيام التى كان صوت الشيخ محمد رفعت يملأ جنبات بلدتى، ويتردد صدى صوته بقدر عدد أجهزة المذياع التى تُرسل ألحان صوته الرخيم، من دكان إلى آخر، ومن شرفة بيت إلى باب آخر، يظل مفتوحًا، ينتظر ساعة انطلاق مدفع الإفطار، بعد انتهاء الشيخ من آيات المصحف الكريم، التى يظل يقرأها، نصف ساعة كاملًا قبيل أذان المغرب.
ما إن ينطلق الأذان صادحًا، حتى تخرج طلقة صوت المدفع، فينصرف الأطفال الذين يتحلقون حوله، عند مبنى «البلدية»، وقد وقفوا يشاهدون عسكرى الشرطة، وهو يُلقم «فاطمة»، وهذا اسم المدفع، حشوة طلقته لهذا المغرب، فإذا ما انطلقت، ووصل صوتها إلى كل البيوت، كسر كل مُتحلق حول «طبلية» خُبزته، ورفع كوب الماء إلى فمه، وهو يردد ثناءات الحمد لله الذى أطعمه وسقاه، من دون حول منه ولا قوة، بينما الأطفال ينطلقون صائحين، جارين إلى بيوتهم، يلحقون بطعام إفطارهم، حتى ولو كان بعضهم، دون سن الصيام، مفطرًا، محدثين جلبة، هى واحدة من الترديد الصوتى للشهر الكريم، الذى تراه فى كل شاردة وواردة، من هذا البلد أو ذاك.. يتردد عبيره، فى ذلك الجو الشتوى، يوم أن كنا صغارًا، تختلط فيه رائحة المطر، بروائح الطعام التى تنطلق من كل بيت، ومن تلك «الصحون» التى تتبادلها سيدات هذه البيوت فيما بينهن، حتى تصير مائدة رمضان عامرة بأصناف طعام، لم تصنعها كلها سيدة البيت، تتسابق إليها الأيادى، على صوت النقشبندى مرددًا «سبحانك ربى سبحانك.. ندعوك ونرجو غفرانك»، قبل أن يبدأ سامر الأسرة حول جهاز الراديو، مستمعين إلى روائع الإذاعة من كل فن، ومستمتعين بدفء الأسرة، قبل دفء الموقد الذى تزغرد ألسنة لهب حطبه الذى تكوم بداخله، يرسل حرارته، فيزيد من حوله سخونة على سخونة، قبل أن يغلى ماء براد الشاى على جنباته.

أحِنُّ لوجوه الناس فى شارعنا، هادئة مستبشرة، تسعى إلى رزقها، خماصًا فى أول النهار، وتعود بطانًا فى آخره، شاكرة أنعم الله على ما رزقها من فضله، وكل حسب سعيه وسعته.. أحِنُّ لتلك الوجوه، تصطف فى صلاة التراويح، غير عابئة بالتراب الذى حولته مياه الأمطار طينًا فى الشوارع، وإلى بائع عيدان القصب، وحبات «أبوفرو»، وإلى الرجل يُمسك «كوزًا» فى يده، يدور به على صينية من النحاس، يصنع الكُنافة التى نفتقد طعمها البلدى الآن، بعد أن حلت الماكينة، وذهبت الروح الجميلة لهذه الصناعة المرتبطة بالشهر الكريم.. أحِنُّ لأصوات «البُمب والصواريخ» بدائية الصنع، قبل أن تغزونا الصين بكل شىء من صناعتها، حتى الفانوس الناطق، الذى أفقدنا إحساسنا بغناء الأطفال «حالو يا حالو»، ممسكين بفوانيس الشمع المصنوعة من الصاج والزجاج، قام عليها صُناع مهرة، لم يجدوا مفرًا أمام هذا الغزو، إلا أن يمتطوا صهوة «توك توك»، مُعبرين عن هزيمة نكراء لكل تراثنا المصرى، الذى ما زال يترنح تحت ضربات الحداثة الموجعة، ونحن أحوج ما نكون إليه، حفاظًا على الهوية التى قاربت على الانقراض، بعدما توارى صوت الإذاعة، وغطّ ماسبيرو فى سبات عميق، رغم سابق سيادته وريادته، يوم أن كان الجميع يعرفون منه، ماذا فعل «موهوب» مع «سلامة»، أو يستمتعون بصوت شويكار، متهمة فؤاد المهندس بـ«إنت اللى قتلت بابايا»، أو يختتمون ليلهم بـ«أحسن القصص»، بعدما جالت خيالاتهم مع أساطير «ألف ليلة وليلة» الإذاعية، لا ينافس ذلك صوت الأسنان تلوك قطع القصب، تعصر ماءه، ليروى من كان فى حاجة إلى سكريات، دون كل فنون العصائر التى تزخر بها موائد اليوم، بلا روح.

إلى ماذا أحِنُّ وإلى ماذا؟.. فالحنين بداخلى إلى كل الزمان والمكان، وإلى كل الخلائق، وإلى تلك الأشياء التى صنعتها الطبيعة، وجاء بها الإنسان، لتصنع لنا أيامًا فى رمضان، لم تعد موجودة هذه الأيام.. فمَنْ المسئول؟.. وهل هناك من جانٍ؟
أزعم أن ما رويته لم يكن حكرًا على أهل المدن الصغيرة فى المحافظات، أو قراها، بل إنه كان أكثر وضوحًا بها، عن القاهرة التى قدِمتُ إليها نهاية سبعينيات القرن الماضى، طالبًا لدراسة الصحافة فى كلية الإعلام، بجامعة القاهرة.. وكانت القاهرة عامرة بروائح ومظاهر رمضانية، بطعم أكثر خصوصية.. ولم يُلهها العمل عن كونها حاضنة آل البيت، وموطن بيوتهم وقبور بعضهم، وتلك السمات التى أفرزتها حقبة الفاطميين فى مصر، تتلاقح مع ما وقر فى الثقافة المصرية، منذ عهد الفراعنة الأوائل، ليخرج لنا الموروث المصرى الذى انتشر عبيره فى أرجاء العالم العربى، وفرض ثقافته، ومنطوق لهجته، كنتاج طبيعى لتلك المائدة الحافلة من الزاد الثقافى، ينشره أثير الإذاعة العابرة للحدود المصرية، أو تحمله المؤلفات التى لم يُنافس المصريين فيها أحد، وكانت مطابع القاهرة، كأفران العيش البلدى الآن، تلقى بخُبزها إلى كل طالب يُريد أن يقرأ إبداعات المصريين.. ومن سواهم، فى ذلك الزمان يستحق أن يقرأ له الناس؟!.
لحظة التغيير فى ثقافتنا وموروثنا الاجتماعى، بل الدينى، بدأت مع تفجر النفط فى بلاد الخليج.. ساعتها، سعى كلٌ يبحث عن رزقه فى بلاد البترودولار، التى شرعت أبوابها مفتوحة، أمام كل من ينقل إليها جزءًا من مدنيته، يُحيل بها رمال صحرائها مدنًا عامرة.. هناك، تلاقت ثقافات الدنيا، ببعضها البعض، وغلب الذى هو أعلى صوتًا وقوة، الذى هو أدنى، وسنحت الفرصة أمام دعاة الدين، يلعبون بعقول البسطاء من العمال والفلاحين، الذين تربط فطرتهم، بين سعة المال وضرورة التدين، وما لهم من مرجعية تحمى عقولهم من غائلة «الوهابية» التى وجدت فى هؤلاء مرتعًا خصبًا تتمدد فيه، تحاصرهم، مع فلول الإخوان الهاربة، منذ عهد الرئيس عبدالناصر، إلى بلدان الخليج، ليصنع الجميع معًا، نسقًا دينيًا، واجتماعيًا، ويبسطون بساط سلوكياتهم الجديدة، لتجعل المجتمع المصرى، مسخًا مشوهًا.. كيانًا لم يعد هو ابن أيامه السابقة، ولا ينتقل لملامح وسمات جديدة، تصنع منه مجتمعًا آخر، يحمل سمات التطور، لجينات، يُفترض أنها قبعت بداخله، تحكم مسيرته.. كان الناتج لهذه المرحلة وجوهًا شائهة، لا تحمل بصمات أمتها ولا ملامح عصرها.. فضعنا، حتى قبل أن تستشرى دعوات «التغريب»، التى قضت على الأخضر واليابس، وتجعلنى، مثل غيرى، أحِنُخ لخُبز أمى، ولحكايات أمى، وإلى كل الوجوه التى رأيت فيها مصر شاخصة، حية نابضة.
يسوؤنى، أن أرى الناس وقد أصبحوا سُكارى، وما هم بسكارى، ولكن بصمات التيه شديدة، أزاحت عن القوى قوته، وأفقدت الحليم صبره على المكاره، فأصبح بين تابع أو كاره.. وفى الحالين، لم يعد هو ذلك الشخص الذى كنا نبغى، وكان هو الخلية الأولى التى حافظت على الجين الوراثى للأمة المصرية، فلما ضاع، ضاع كثير من ملامحها.. وربنا عنده العوض.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.