رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحر أبوجريشة.. مؤسس «موسيقى البلوز» في مصر


اللى ما يعرفش يعنى إيه «طمبوشة» يبقى مش فلاح وما يعرفش يعنى إيه فلاحين.. وعشان ما نتهوش من بعض من أولها. فالطمبوشة هى آلة زراعية للسقيا.. كان يستخدمها الفلاحون حتى تم اختراع «ماكينة المياه» القادمة من بلاد الروس فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى.
الطمبوشة ويقال لها «الكمبوشة» أيضًا.. عبارة عن «صاج ملفوف يكبش المياه من ناحية ويمنحها للفحل أو القناة من الناحية الأخرى ويتم ربطها بخشب ممتد إلى رقبة «البقرة» التى تدور طوال اليوم فى «لفات دائرية» بعد أن يتم وضع «الغما» على عينيها لأنها لو لم يتم تعصيب عينيها فلن تمشى.. لأنها ستعرف أن الطريق ملتوية ولا فائدة من الدوران.. لكن وبمجرد أن تتم تغمية عينيها تمشى وهى لا تعرف أنها تمضى فى دوران بلا نهاية.. فيما تتسرب المياه إلى الأحواض العطشى.
وحتى تتم مهمة «سقاية الغيط» بنجاح.. لا بد وأن أتابع أنا الطفل الصغير ابن العاشرة الدوران دون كلل أو ملل لمدة يوم كامل.. حتى ننتهى من رى فدادين بطولها.
والطبيعى بما أنك ستقضى يومك بعيدًا عن البيت.. لازم تاخد معاك «الزوادة».. وهى باختصار «رغيف عيش شمسى.. وقطعة جبن قديمة.. وخيار».. والأهم من الأكل والشرب حاجة تسليك عشان الوقت يعدى عليك وعلى «البقرة».. وفى البداية كانت التسلية براديو جيب صغير يعمل بالحجارة.. ولما ربنا كرمنا جاءت الكاسيتات اللى شبه البلاستيك بشريط واحد.. بباب واحد.. ويا ويلك لو الشريط «سف» أو الحجارة خلصت.. «أتحدث عن حجارة بطارية الكاسيت بالطبع».

هذه الفدادين القليلة بالنسبة لأهل الإقطاع والكبيرة جدًا بالنسبة لطفل- هو أنا-يرى فى يوم السقيا نوعًا من العذاب.. لم تكن قريبة من بيتنا.. كانت فى منطقة اسمها «نجع الدير».. ويجاورنا أصحاب حديقة مانجو- لا يوجد لطعمها مثيل فى الكون- من عائلة السعدات.. تعودنا أن نلجأ إليهم لنشرب المياه الساقعة من الزير أو للحصول على نصيبنا من المانجو إذا كان الوقت «موسم».. أو استعارة «شرايط الكاسيت» الجديدة القادمة من الخارج من عند ذويهم.. ومنها ذلك الشريط الذى سمعته مع عدد كبير من أصحابى ولم أكن أفهم سر حفاوتهم به لمطرب نوبى أو أسوانى لم أكن أعرفه وقتها، واسمه غريب «البحر أبوجريشة».
فى ذلك الزمن الذى هو آخر أيام السادات كانت هجرات أهالينا تتوالى.. الجميع يتنافسون على «الفيزا الحرة».. وعلى «تجريف أراضيهم» لبناء كمائن الطوب الأحمر.. فقد جاء الحديد والأسمنت ليعملا بديلًا لتلك البيوت الطيبة المبنية بـ«النى الأخضر» ومدهونة بالجبس.. وعرفنا «النقاشة» مثلما عرفنا طريق الغربة والترحال الذى كان يغنى له عمنا «البحر أبوجريشة».

«على حالى تبكى العين
أنا ماشى رحال.. أنا رحال
شايل حمال على كتفى
مسكين وماشى حزين
بأقول موال».

كلمات بسيطة جدًا.. حزينة جدًا.. دون موسيقى مصاحبة، وفجأة إيقاع دوار يشبه إيقاع «الطمبوشة فى دورانها».. وكأننا معًا.. الكاسيت المعلق فى رقبة البقرة.. وأنا.. والبحر أبوجريشة نتأسى من غربة لم أكن قد عرفتها بعد.. فما الذى جذبنا نحن أهل الصعيد إلى ذلك الصوت الحاد وإيقاعه الخماسى؟.. هل هو صوت «الساكس الحاد» الذى يسبق ترنيمة غربته:
«أنا غريب فى الدنيا يابا
ويا عينى ع الغريب
أنا بتوه فى دنيا غريبة
وأهى دنيا مالهاش حبيب
يا عينى ع الغريب».

ومَنْ هو ذلك البحر الذى نازع عدوية وعبده الإسكندرانى فى عرشهما وأجبر عمرو دياب على أن يستعير إحدى أغنياته ليضمها إلى ألبومه هلا.. هلا؟!

أصوله نوبية.. مولود فى بولاق أبوالعلا وكان يعمل صولًا فى «البحرية»
اسمه «بحر محمود عبده».. ولد فى ٢١ يونيو من عام ١٩٣٥.. تعود أصوله إلى قرية «قرشة» فى النوبة.. وهاجر أهله فى البداية إلى مدن القناة مثلما هاجرت آلة السمسمية وبالتحديد إلى بورسعيد، حيث التقى البحر بموسيقاه النيل.. ومن بورسعيد إلى ساحل بحر آخر فى الإسكندرية.. ثم إلى بولاق أبوالعلا التى ولد فيها «بحر» لأب يعمل فى مهنة غريبة وهى «دواقة المعسل»، حيث كان يستعين به تجار الدخان لضبط «إيقاع ومذاق المعسل». وهى مهنة لا أعرف لها بديلًا أو معادلًا فى أيامنا هذه.
ولم يستقر البحر فى موضع محدد بالقاهرة.. فمن بولاق أبوالعلا إلى الألف مسكن ومن جديد إلى الإسكندرية حيث عمل «صولًا فى البحرية».. لتمتزج «موسيقى الجيش النحاسية» بالغريب القادم من آخر بلاد الصعيد.
«ومشينا مهما مشينا..
أملنا بكرة نعود».

المعلومات المتوافرة عن ذلك البحر أبوجريشة تصل به لمناطق أسطورية.. ومن هذه الروايات ما كتبه أحد معاصريه:
«ده كان بينزل من المركب كل كام شهر.. يدخل علينا من المنيا.. طول إيه.. عرض إيه.. ويمشى من المنيا لحد ما يدخل حوارى بكوس.. وهوه بيغنى.. النسوان تفتح الشبابيك وتبص له.. وطول ما هو ماشى يشرب فى بيرة ومخدرات.. لحد ما يوصل الفرح اللى هيغنى فيه.. يطلع المسرح ووراه مليون عازف إيقاع جايين من بحرى لحد أبوقير.. ويبتدى يفك زراير القميص الأبيض بتاع البحرية شوية.. شوية.. لحد ما يرميه فى الهوا ويفضل بالفانلة الداخلية والبنطلون الأبيض ويطلع منديل أحمر من جيبه يربطه فى رقبته زى بتوع أمريكا اللاتينية والناس تغيب معاه فى الفرح لحد الصبح ما بين رقص ومغنى».
تبدو المبالغة واضحة إلى حد كبير فى سرد الراوى.. لكنها تكشف بوضوح كيف كانت الأفراح التى يشارك فيها الرجل عامرة.. وتؤكد ما قيل عن انتشاره بشكل خرافى فى الأعوام الأولى لحكم مبارك فى كل أفراح الإسكندرية والدلتا والقاهرة التى جاء إليها بحثًا عن «منتج» لأول ألبوماته.

نصيف قزمان أنتج له ألبومه الأول فى الثمانينيات
ندرة المعلومات عن البحر أبوجريشة بخاصة عن تلك الفترة التى سبقت ظهوره المدوى ليست هى السمة الغالبة فى سيرة هذا الرجل.. ولكن تضارب المعلومات أيضًا.. فبالرغم من اتفاق الجميع على أنه كان «صولًا فى البحرية».. إلا أن أحد الذين عملوا معه لسنوات أكد أنه كان من بين «الهجانة» الذين يعملون فى حرس الحدود..وفكرة عمل الرجل لا تعنينى بالأساس.. وإن كان يعنينى تأثيرها فى طريق غناء البحر أبوجريشة.. ولو صحت معلومة أنه كان من الهجانة، وهم الرجال الذين يركبون الجبال الذين شاهدناهم فى فيلم الأرض وهم يجرون محمد أبوسويلم، فإنه مما يعرف عنهم هو علاقتهم بفن «الحدو» وهو نوع من الغناء الارتجالى.. وهو سمة من سمات مقدمات أغنيات أبوجريشة.
المهم أن البحر لم يجئ إلى القاهرة بحثًا عن منتج لألبوماته كما هو المعتاد.. لكن الرجل الذى جاء به هو مطرب نوبى آخر كان البعض يعتبره عمدة الغناء النوبى واسمه «على كوبانة».. هذا الرجل هو الذى طلب من المنتج نصيف قزمان أن يستمع إلى البحر أبوجريشة وحتى يضمن موافقة صاحب صوت الدلتا أخبره بأن البحر «هو جيمس براون» الأغنية العربية.. وبالفعل جاء البحر ومعه أربعون عازفًا من الإسكندرية دخلوا إلى الاستديو لتسجيل خمس أغنيات دفعة واحدة.. فلم تكن الأغنيات وقتها تسجل بطريقة «التراكات المعروفة».. كانت الاستديوهات تعرف فقط الـ«وان تيك».. وهذا ما حدث.. سجل البحر أغنيات ألبومه الأول ثم غادر إلى الإسكندرية مجددًا.. وبيعت كل النسخ التى طبعها قزمان فى الفترة من مارس ١٩٨٠ حتى أكتوبر من العام نفسه.. لكن أحدًا طيلة ستة أشهر لم يطلب الألبوم مجددًا.. وفجأة وفى أكتوبر بالتحديد جاء المتعهدون من كوم الدكة وسيدى بشر وكرموز ومعظم أحياء الإسكندرية يطلبون طبعات جديدة.. وبعدها بشهور انتقلت العدوى إلى موزعى الكاسيت فى بقية محافظات مصر ليصبح البحر هو مطرب الكاسيت الوحيد الذى ينافس عدوية.

عمرو دياب أعاد توزيع أغنيته«وماله»
سواء كان البحر منتميًا إلى هجانة حرس الحدود أو رجال البحرية.. فالمؤكد أنه لم يسمع يومًا عن موسيقى البلوز.. إلا أن بعض المتخصصين يؤكدون أنه أحد أهم من قدم هذا النوع من الموسيقى فى مصر.. وقبل أن نؤكد أو ننفى ذلك.. أحب أن أشير إلى أن ذلك النوع من الموسيقى عرفه الأمريكان فى القرن السابع عشر الميلادى عن طريق رجال الدين السود الذين ترنموا بأغنيات حزينة وأولئك العمال الذين اشتكوا من قهر وعبودية أصحاب العمل الأمريكان.

وتميزت تلك الموسيقى بالارتجال واستخدام الكورال والآلات التى تُشبه الأصوات الآدمية.. وتميز مغنى البلوز بصوت خشن وحاد.. وهو ما كان يميز صوت البحر أبوجريشة الأجش.. وكلمة «blues» تعنى فى الإنجليزية «الشخص الواقع تحت سيطرة العفاريت التى تسبب الحزن والإحباط».. أى «الممسوس بالعفاريت الزرق».. ويبدو أن لجوء كل أغنيات أبوجريشة للتعبير عن حالة حزن مستمر وكلمات أغنياته التى تتحدث عن غربة دائمة ورحيل مستمر، استدعت ذلك النوع من الموسيقى.

المطرب والملحن مصطفى رزق أحد المتخصصين فى موسيقى البلوز فى مصر حاليًا عندما سألته: هل يمكن اعتبار أغنيات أبوجريشة من هذا النوع الموسيقى؟، قال:
- يمكننا ذلك.. فأهم ما يميز البلوز رغم عدم اعتماده على السلم الخماسى أنه قريب المذاق من الأغنيات التى تستخدم.. وكذلك استخدام الآلات النحاسية بهارمونى غريب وقادر على الامتزاج مع الميلودى الشعبى، إضافة إلى الصوت الخشن صاحب الإحساس العالى فى نفس الوقت، وكلها سمات موجودة فى أغنيات البحر أبوجريشة.

سر ذلك الحزن الموجود فى صوت الرجل ربما يعود إلى حزن فطرى لدى كل النوبيين الذين يحلمون بالعودة من رحيل لا نهائى، إضافة إلى ما قيل عن هجرة البحر نفسه إلى دولة الكويت لسنوات قبل أن يعود ويستقر فى القاهرة، وهى مدينة غريبة بطبعها على أمثالنا من أبناء الصعيد.

«كفاية بعاد كفاية
خليك على طول ويايا
سنتين واقفين على المينا
سنتين ولا تسأل فينا
صابرين والشوق كاوينا
اسمع يا حبيبى.. ندايا».

نجاح قيمة الرحيل والغربة وفقد الحبيب مع البحر، دفع آخرين لاستثمار هذا النجاح، منهم عمرو دياب ابن الشرقية الذى هاجرت أسرته إلى بورسعيد قبل أن يرحل هو للقاهرة بحثًا عن فرصة.. النجاح الرهيب الذى حققته أغنية وماله، أغرت عمرو أن يعيد توزيعها مع الموسيقار محمد هلال ليقدمها فى ألبومه «هلا هلا».. لكن الذين أحبوها بصوت البحر، ظلوا يغنونها بطريقته:
«وماله.. لو حبيته
جوه عينيا داريته
أنا ليلى نهارى
فكرى بيه مشغول
كيف انساه دلونى
هوه ده معقول؟!
قولوا زى ما تقولوا
لكن حبه باصونه..
والله ماله».


أبناؤه العشرة يعملون بالموسيقى

أخلص أبوجريشة تمامًا للونه الغنائى، وموسيقاه الحادة، وآلاتها النحاسية التى تخلع القلب مع كلمات أغنياته التى تناوب على كتابتها عبدالعزيز زين العابدين وأحمد المستشار وغيرهما من شعراء النوبة ‏المعروفين.. وبلغت ألبوماته عشرة ألبومات.. مثلها مثل أبنائه العشرة وجميعهم يعملون بالموسيقى ما بين عازف ومطرب وآخرهم سلوى أبوجريشة التى أعادت غناء معظم أغنيات والدها، وبعضها نجح فى ‏اجتذاب جيل جديد، وفى مقدمتها «يا قلبى العطوف»:‏ ‏«يا قلبى العطوف لف الدنيا شوف وقلى فين حبيبك من بين الألوف أخاف لتوه يا قلبى وتقول الظروف».‏ انتهت توهة عمنا «البحر أبو جريشة» الذى يحتاج تراثه الموسيقى دراسات متعددة.. برحيله فى الثلاثين من مارس عام ١٩٩٥.. لكن توهة أبناء جيلى لم تنتهِ بعد.. تقول إيه.. مقادير!‏ ‏«مقادير..‏ وتعبنا من المشاوير ومشينا مهما مشينا مشوار الغربة.. طويل».‏