رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والمريد


لم يعد صعود الطريق مرهقًا.. صارت خفيفة وبدأت تشعر بنسمات من الهواء تداعب جلدها.. بدأ الطريق يتفرع.. مشت باستقامة فقد خشيت أن تتوه، منذ كانت صغيرة وهى حريصة على تتبع علامات ‏الطريق، لديها القدرة على أن تحفظ الطريق فلا تتوه، فى أول يوم لذهابها «الكُتّاب» اصطحبها أبوها، وأوصاها أن تنتظره كى يعود بها، لكنه فوجئ بها أمام البيت، لم يعرف الأب هل يُثنى على شجاعتها ‏أم يعاقبها لعدم إطاعة أوامره؟، فى قرارة نفسه كان راضيًا بل فرحًا، كونها ابنة وحيدة بلا أخ كان يحمّله همًا، لكن تصرفاتها وسلوكها كانا كثيرًا ما ينسيانه هذا الهم.. تعودت أن تبادر وتمسك بزمام الأمور ‏فى حياتها. ‏

لكنها الآن مدفوعة برغبة وفضول قديم، لمعرفة إلى أين سيقودها هذا الطريق وأين اختفى حفيدها؟، لمحت شالها معلقًا على إحدى الأشجار، سارت إليها، لا بد أن الطفل يجلس تحتها، لكن الضباب أو ‏ربما السحب التى أصبح الطريق فى صعوده المستمر يخترقها، تُخفى الكثير من معالم الأشياء. وصلت للشجرة، كان شالها على فرع بعيد، لا تستطيع أن تطوله، استندت للشجرة فتحركت الشجرة بمجرد ‏لمسها جذعها، انفتحت الشجرة عن مساحة شاسعة من الخضرة تنيرها شمس حانية، المكان ملىء بالنساء ولكنهن منقسمات إلى نوعين: شابات يرتدين بالطو أبيض ويضعن إيشاربات صغيرة على رءوسهن، ‏ويقمن برعاية سيدات يشبهنها فى هيئتها وفى سنها، اقتربت منها شابة تشبه ابنتها الراحلة اصطحبتها إلى مقعد خالٍ أمامه مرآة كبيرة، أجلستها الشابة وعدلت من وضع الكرسى حتى أصبح كسرير. ‏
ربتت على يدها وهمست لها: ‏
‏- سترتاحين الآن.‏
طلبت منها أن تفتح أزرار جلبابها، تأكدت أنها طبيبة عندما وضعت السماعة على قلبها وبدأت فى الاستماع لدقاته، أعطتها كوب عصير، لم تكن عطشانة، لكن العصير رواها وشعرت بنوع من الهناءة، ‏فتجددت رغبتها الدائمة فى الحمد والامتنان لمن سقاها، تنهدت الشيخة، وانتابها تحنان ورغبة فى البكاء، كأن دهرًا مضى ولم يتح فيه أن تجلس مسترخية.. دون أن تحمل همًا أو أن تفكر فى تفاصيل حياتها. ‏
مدت الشابة يدها إلى القفص الصدرى، وفى حركة مباغتة اخترقته، أخرجت قلب الشيخة، رفعته أمام الوجه المستكين بخدر من الحنين والدهشة.‏
ابتسمت بأسى:‏
‏- قلبك مثقل بأشخاص وتفاصيل كثيرة، يجب أن نعيد ترتيب ما فيه وأن نتخلص من كل ما يثقلك.‏
عليك فقط أن ترشدينى للمهم بالنسبة لك، والباقى سنتخلص منه فى النفايات. ‏
بدأت الطبيبة فى إخراج ما بداخل قلبها ورصصته على المنضدة المجاورة لها، وبعد أن انتهت قالت لها: اختارى.‏
كانت حياتها كلها على منضدة أمامها، كل الأشخاص الذين مروا بحياتها.. مَنْ تختار؟ ‏
شعرت الطبيبة بحيرتها.‏
‏- سأساعدك، ابدئى بالتخلص ممن لا تتذكرينهم، لا تملأى قلبك بمن لم يؤثر فيك، أو من انتهى تأثيره.. انظرى إليهم جيدًا، سيكون ذهنك الدليل للبقاء ومن لا يتعرف عليه سنتخلص منه فورًا.‏
كانت نصيحة جيدة، نظرت للمنضدة، من كانت تتذكره كان يعاد لقلبها ومن لا تتذكره كان يسقط تلقائيًا من فوق المنضدة، كان ذهنها كسهم يصيب المرصوصين فى صمت.‏
مسكت يد الطبيبة.‏
‏- من فضلك، هناك من أتذكرهم، لكن ذكرياتهم معى حزينة ومضطربة.‏
لا تقلقى سنعيد المحاولة أكثر من مرة، لن نبقى غير ما تريدين.‏
نظرت إلى السلة المملوءة بأجزاء من حياتها، ماذا لو أن جزءًا من هذه الأجزاء يحوى ذكرى عزيزة؟ وها هى تتخلص منها تلقائيًا، من يضمن لها أن ذهنها صافٍ وأن اختيارها صحيح.‏