رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسامة أنور عكاشة وديوان العرب




أطلق الناقد الكبير الراحل عبدالقادر القط على الدراما التليفزيونية «ديوان العرب»، باعتبارها أحد أهم الإطارات والأشكال الإبداعية المستحدثة والمعبرة والموثقة لتفاصيل الحياة المصرية الحالية ‏كمرآة بديعة بعد زمن الرواية ومن قبل كان الشعر العربى ديوان العرب الأول فى الزمن القديم.‏
فى مثل هذه الأيام منذ ٨ سنوات (٢٨ مايو ٢٠١٠)، ودعت مصر أحد أهم رواد الإبداع الدرامى والحكاء المصرى والتاريخى، وصاحب أروع وأخلد رحلة مع دراما الشعب المصرى الكاتب ‏أسامة أنور عكاشة، ولعل من حسن الحظ والتوفيق أن كان لكاتب تلك السطور فرصة إجراء أكثر من حوار صحفى تم نشرها فى مجلتى «المصور» و«آخر ساعة»، وقد أسعدنى فى حينها إشادة ‏الكاتب بأهمية الحوار.‏
تذكرت ما جاء فى أحد حواراتى مع الكاتب الكبير، عن حال الإبداع بشكل عام فى مصر المحروسة وهى فرصة أراها مهمة للتذكير بإجاباته فى هذا الصدد.. فى مناسبة الحديث هذه الأيام عن ‏دراما رمضان قال عكاشة حول رؤيته للإبداع المصرى، قال: «على مستوى الإبداع الأدبى والفنى، الأمر ليست له علاقة بالوضع السياسى أيًا كان إيجابيًا أو سلبيًا، فالمبدع يبدع مُعارضًا أو مُشايعًا ‏أيًا كان موقفه السياسى، ولدينا مثال رائع فى الراحل العظيم نجيب محفوظ فقد ظلت كتاباته عبر أربعة عصور من عهد الملكية وحتى عهد عبدالناصر والسادات وعهدنا الحالى (يقصد عصر مبارك ‏فقد رحل كاتبنا عام ٢٠١٠)، ولم يثنه عن إبداعه وطرح فكره أى ظرف تاريخى أو متغير ما طرأ على البلاد، المجيدون يبدعون ويكملون رحلات إبداعهم فى كل الظروف.. لكن يمكن القول إنه ‏وللأسف تزايدت فى الفترة الأخيرة أشكال الإنتاج الردىء، حيث النماذج الفنية السيئة غالبة والمزاج العام للمتلقى صار مزاجًا للأسف متخلفًا وبشكل خاص فى مجال الفنون الغنائية وبعض النماذج ‏السينمائية والتليفزيونية.. هناك قلة من المبدعين الجادين.. وأرى أن الظرف الاقتصادى الاجتماعى الضاغط قد ساهم فى ظهور أعراض تلك الأمراض فإذا كان المرض يعلن عن وجوده فى ‏المرضى بأعراض ارتفاع درجة الحرارة أو ظهور بثور وطفح جلدى، فإن الفنون الرديئة هى بمثابة الطفح الجلدى الذى يشوه جسد المريض والوطن».‏
وسألته، كيف نقرأ الماضى؟.. أعرب عن سعادته بالسؤال، وقال: «إنه سؤال مهم، وهنا لا بد أن نسأل بأى ذهنية نقرأ.. هل ذهنية الدروشة أم الاتباع الأعمى.. فى كل الأحوال لا بد أن تكون ‏القراءة نقدية فى مجال إعادة فتح ملفات التاريخ ولنضرب المثل بالدكتور طه حسين للشعر العربى عبر كتابه العظيم «الشعر الجاهلى»، الذى وضع الأساس لمنهج نقدى وهو المنهج الذى ينبغى أن ‏نقرأ به تاريخنا الاقتصادى والاجتماعى.. يجب ألا نقرأ للترنح والتخبط، بل القراءة لكى نناقش، وهذا هو المنطق المطلوب، وعند قدرتنا على هذا سيمكننا تجاوز وعبور كل مناطق التخلف.. على ‏سبيل المثال، للأسف الشديد عندما تمت كتابة مسلسل «فاروق» فإن السيدة لميس جابر كاتبة العمل قرأت وتعبت كثيرًا فى إعداد العمل، ولكنها قرأت بعين واحدة، لقد استهوتها حكاية أجواء الحنين ‏لشكل الملكية والحالة الأرستقراطية ونظرة النخبة للملكية، وكأنها تريد أن تنتمى إلى ذلك العصر. فأغفلت الجانب الآخر وهو ما استقر عليه جماع الرأى المصرى من أن هذا الملك لا يصلح وأنه ‏ملك فاسد فسادًا شخصيًا قبل أن يكون فسادًا سياسيًا، كيف يمكن الدفاع عن ملك هوايته سرقة كل من حوله ولعب القمار فى الأوبرج ونادى السيارات ويعرف أن من حوله يهزمون له من أجل ‏الحصول على مراكز أو رتب أو أى مكاسب.. نعم كان من الثابت أنه لا يحتسى الخمر ولم يكن زير نساء أو متعدد العلاقات النسائية لكن فساده وفساد القصر هو الذى أنشأ حالة إجماع من كل القوى ‏الوطنية والسياسية حتى قبل قيام ثوار يوليو بثورتهم للتأكيد على أن هذا الرجل فاسد، ولا يصلح أن يكون حاكمًا لمصر.. لا بد أن ننظر إلى التاريخ بعينين، ولا يمكن أيضًا أن نحمل فاروق كل ‏الذنوب.. لقد كان ملكًا ضعيفًا ولا يستحق أن يكون محل جدل أو موضوع دراما تليفزيونية.. إن إنتاج مسلسل عن فاروق يثير الضيق والاستغراب أما كان الأولى إنتاج مسلسلات عن زعماء بقامة ‏مصطفى النحاس وسعد زغلول وجمال عبدالناصر».‏
رحم الله كاتبنا الكبير، وكل سنة ومصرنا الغالية بخير، وفى كل رمضان لن ننسى «عكاشة»، أما صناع دراما إهانة ثورات مصر فسيتجاوزهم التاريخ ما دام ظلوا يرون الدنيا بعين واحدة.‏