رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إياك أن تُنكر ذاتك


لرمضان هذا العام طعمٌ خاص، على الأقل، بالنسبة لى.. فلأول مرة، أشعر له بهذه الطاقة الروحانية تجتاح نفسى، وتدفعنى إلى أمور، لم أعهد لها مثيلًا من قبل، الأمر الذى يدفعنى إلى التساؤل عما إذا كان للمرحلة العمرية التى أصبحنا فيها، دخل فى ذلك، أم أن الواقع من حولنا يدفعنا دفعًا نحو التمسك بتلابيب الآخرة، بعدما انقضى العمر، وبذلنا الجهد، وخرجت، كبعضٍ غيرى، بمؤشر أساسى لهذه الحياة الدنيا، لا يدفعنى إليه غلٌ ولا حسد، لا قدر الله، ولكنه خلاصة العمر الذى انقضى.. مُلخصه، أن (كن وفيًا مخلصًا لعملك، كما لدينك ووطنك، ولكن إياك أن تُنكر ذاتك).
من يُنكر ذاته يُنكره الآخرون، ويُعد فى نظرهم هَمَلًا لا يستحق الانتباه.. وقديما قالها لى رجل عليم بطبائع البشر، كان على رأس مؤسسة صحفية قومية كبرى، قال: الناس على ثلاثة أصناف.. أولهم يُحب العمل ويُخلص له، حتى ولو لم يحصل من ورائه على مقابل، والثانى لا يعمل إلا إذا تقاضى المقابل، فأدفع له ما دام العمل يحتاجه.. أما الثالث، فهو الذى يأخذ دون أن يعطى عملًا، ولكنه خبير فى إعطاء رؤسائه ما يرضيهم من التعريض.. وأنا أحب الصنف الثالث!.
ربما استهجنت هذا الكلام فى حينه، دون أن أدرى، أنه (ما يُنبئك مثل خبير)، وأن الأيام ستدور دورتها، وتضع الحياة، لدى كثير منا، أوزارها، لنقف عند ما قاله هذا الرجل قبل عشرين سنة، وقت كان من الممكن تغيير اتجاه السلوك، ومجاراة الزمن وطبائع الحياة، وأن تصبح واحدًا فى معادلة من يضعون قواعد اللعبة فى هذه الأيام.. على الأقل، ستكون، بفعل ميراث الخير الذى بداخلك، ومبادئ الأخلاق التى تربيت عليها، قائمًا على ضبط كفتى الميزان بالقسط، بدلًا من وضعها المقلوب.. فقديمًا قالوا (من الشجاعة أن تستمر طويلًا فى الميدان، قبل أن تقع صريعًا)، وربما كان فى زهد البعض منا فى المشاركة بلعبة الحياة، أو عدم قدرتنا على فهم أصولها ومجاراة متطلباتها، سلبية أتاحت الميدان مفتوحًا أمام كل عابث أو متآمر، أو مُضل لجماعته الإنسانية.. تمامًا كما فعلت قطاعاتنا الإنتاجية فى مجال الدراما، وكما انسحب التليفزيون المصرى من حياة الناس، وغيره مما جعل الدنيا فى مصر، غير تلك الدنيا التى عرفناها وتربينا عليها.. لا أقول بأن تقف عجلة التاريخ، ولا يأخذ التطور حقه، فما أنا من الغافلين!.. لكن المشاركة، وخوض غمار المنافسة، فيهما صلاح الأمة، وطرد السمين للغث خارجًا، وإلا نكون شركاء فى المؤامرة، إن لم يكن بقصد، فعلى الأقل، بالإهمال والتقصير، وكف اليد عن المشاركة التى تُعطل تغول الآخر وسيادة أفكاره.
سأل أحد زملائنا عن تلك السطوة الإعلامية التى يحظى بها الإعلام المستقل، وتلك الجرأة التى يمارسها صُناع الدراما المصرية من القطاع الخاص، فى مسلسلات تتوجه إلى المشاهد، خلال الشهر الكريم، وقد افتقدت ما يلزم من أخلاق مثل هذا الشهر، واحتوت على قدر من العنف والوقاحة، لا أعتقد أن إعلان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بشأنها يكون قادرًا على مواجهتها بما تستحقه من عقوبات، لا يملك أدوات تطبيقها، ولا محددات الحكم عليها، وبالتالى منعها من الولوج إلى نفوس وأسماع المشاهد بالأذى، السمعى قبل الأخلاقى.. وكان الرد ببساطة أنه فى غياب قطاعات الإنتاج الدرامى التابعة لمؤسسات الدولة، تلك التى خرجت منها عيون الدراما المصرية، وبصرت المواطن بأحداث فى التاريخ كان يجهلها، وألقت بتأثيرها النفسى والأخلاقى، من قدوات عبرت عنها مسلسلات تاريخية، لم يقدر عليها، منذ مسلسل (عمر بن عبدالعزيز) للراحل الكبير نور الشريف، أى شركة إنتاج أخرى، حتى تلك التى تجرأت على تكاليف إنتاج مثل هذه المسلسلات، وأنتجت مسلسل (عمرو بن العاص)، الذى خرج فى النهاية باهتًا، خاليًا من رونق هذه الحقبة التاريخية، تمامًا كخلوه من كثير من حقائق التاريخ عن ذلك الصحابى الفذ.. أقول دون ذلك، لا تسأل عن غياب الوعى، وسيادة الجهل والهطل.
كان لهذه القطاعات لجان لقراءة النصوص الدرامية، تُنقيها من أخطائها، وتُصفيها مما يعتبره المجتمع عيبًا، من ألفاظ تخدش الحياء وتنال من الكبرياء، تختار الموضوعات غير المتشابهة، وتقدم لصدارة الإنتاج، تلك الأعمال التى تنتصر للقيم الإنسانية، وتحض على مكارم الأخلاق، فى غير خطاب مباشر، ولا تكلف فى إيصال الرسالة، وبعد انتهاء التصوير تبدأ مهام لجنة المشاهدة، لمطابقة النص على المُنتج النهائى.. وقتئذ أصبحت الدراما وعاء للذاكرة المصرية، وحاضنة لقيم المجتمع الإنسانية، تحفظها، وتنقلها من جيل إلى جيل.. وعندما تولى الأمر غير أهله، ضاعت الدنيا، وتفرق دم الدراما المصرية بين شركات الإنتاج الخاصة، التى كان لقطاعات الإنتاج الرسمية الفضل فى ظهورها على الساحة، بما أتاحته لهم من أموال، بنظام المنتج المنفذ، الذى اغتنى من ورائه الكثير من أصحاب هذه الشركات، قبل أن يتنكروا لها، ويحاربوها فى أسواقها، مستغلين الأزمة المالية التى عاشتها، لأن هناك من لم يقدر قيمة وتأثير الدراما فى حياة الناس، ومن فقد القدرة على تصور أن تأثير مسلسل واحد، يتم إنتاجه بالمعايير المطلوبة، أكبر نفعًا من آلاف البرامج الحوارية وغيرها، فى إيصال الأفكار التى نريد والأخلاق التى نبتغى.. فيوفر للدراما بتلك القطاعات، بعضًا من ملايين تهدرها قنوات فضائية لا قيمة لها حتى الآن.
من هنا، شاعت أفكار البلطجة، وساد سيئ السلوك وقبيح الألفاظ، من جراء مسلسلات قام عليها نجوم كبار، ذوو تأثير فى جمهورهم، لم يحترموا تاريخهم وقيمة مجتمعهم، بقدر ما انحنوا أمام ملايين الجنيهات التى تعد بالعشرات، يدفعها لهم القطاع الخاص.. ولذلك، فقد قررت أن أحترم ذاتى، وأتفرغ لشهر الصيام، وأن أقاطع دراما رمضان.. فلعلى أحظى فى هذا الشهر بما لم أحظ به فى سنوات عمرى السابقة، ولعل الشهر الكريم يكون حسن ختام العمر الطويل.. اللهم آمين.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.