رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذين يبتلعون الفيل ويسألون عن أكل النملة


كثيرًا ما أتساءل: ما الذى يجعل إنسانًا يرسل إلى عالم أو شيخ دين ليسأله عن شىء يفعله إذا كان حلالًا أم حرامًا؟ الفطرة السليمة تقتضى أن كل ما نفعله مباح وحلال ما لم يؤذ أحدًا، ما الذى يجعل أحدهم يسأل مثلًا: عن مشروعية الأكل بالشوكة والسكينة، مشروعية طلاء الأظافر، مشروعية الاستماع للغناء.. إلخ.
هذه تفاصيل حياتية لا تتعلق بالعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج التى يحرص كل مسلم على معرفة كل أحكامها وضوابطها حتى يؤديها على الوجه الأكمل. أما التفاصيل المعيشية التى ترتبط بالمستوى الاجتماعى والحضارى فلا يلتفت الإنسان إلى البحث عن مشروعيتها والتفكير إذا كانت حلالًا أم حرامًا، إلا إذا تدخل أحد من المحيطين بنا كالوالدين أو الأصدقاء أو زملاء العمل ورفع فى وجهك سيف أن ما تفعله حرام.
لا أظن أن إنسانًا عاقلًا سيسأل نفسه بعد أن يشاهد فيلمًا أو مسلسلًا: هل ما فعله حرام أو حلال؟. فهو قد يشعر بالسرور أو الابتهاج أو الاسترخاء بما يعنى تحقيق منفعة نفسية له، وقد يشعر بالضيق لأنه أضاع وقته وكان هناك شىء مهم عليه أن ينجزه ولم يفعل، وفى هذه الحالة فليس الحل هو التحريم، ولكن الحل هو تعويد النفس على الانضباط وترتيب أولويات المهام والانتباه للوقت واحترام المواعيد سواء كانت متعلقة بموعد نوم أو عمل أو صلاة، وقد يشعر آخر بأن مستوى المسلسل متدنٍ فنيًا وملىء بالألفاظ والإيحاءات البذيئة، فعليه كإنسان عاقل راشد أن يبحث عن مضمون آخر يحقق له متعة روحية وذهنية.
إن الرقابة الاجتماعية وتدخل الآخرين فى تفاصيل حياتنا وانشغال الفرد بأمور الآخرين أكثر من تركيزه على حاله وما يفعله، يحول العقل الجمعى لأفراد المجتمع إلى عقل قطيع، لا يستطيع أن يحدد اتجاهاته بمفرده، ويحتاج إلى راعٍ وعصى تقول له نعم. ولا، حلال، حرام. وعقلية القطيع تريح كثيرًا من الناس فهى تخفف عنهم المسئولية وتلقى بتبعية التفكير والحكم على الآخرين، على الشيخ، على دار الإفتاء.. إلخ، رغم أن الحساب أمام الله هو شأن فردى «كل نفس بما كسبت رهينة» والنية أو ما بداخل نفس الإنسان شىء شخصى لا يطلع عليه إلا الله. ومن ثَم فنحن لا نحاسب فقط على سلوكنا، ولكن على نيتنا وهدفنا من هذا السلوك. إن استحضار الله فى كل أفعالنا يجعل الإنسان رقيبًا على نفسه، ويجعله يفكر ويستخدم العقل الذى ميزه به الله عن سائر خلقه.
ما الذى يغضب الله إذا وضعت سيدة طلاء أظافر؟ أو وضعت مكياجًا جمّل وجهها ورفع من روحها المعنوية وأعطاها ثقة بنفسها؟، المعيار هنا ليس الحلال أو الحرام ولكن المعيار هو: هل هو مكياج مناسب، مكياج لائق للظرف والمكان الذى تتواجد فيه؟، أم أنه مكياج فج وصارخ ويدل على انعدام الذوق ويقبح خلقة الله؟.
إن ثقافة التحليل والتحريم تجعل أبناءها مضطربين ومعاقين ذهنيًا ونفسيًا وسلوكيًا، وتؤدى إلى الانشغال بالسؤال عن تفاهات الأمور أو التدين الظاهرى، بينما تستشرى الكبائر كالرشوة والغيبة وأكل أموال اليتيم، وأكل أموال الناس بالباطل، وعدم الدقة والانضباط فى العمل وتعطيل مصالح الناس.. إلى آخر مظاهر الفساد التى نعانى منها.
إن الله لا يضيره أن تأكل بيدك اليمنى أو اليسرى طالما كان مطعمك من حلال، وأنجزت مصالح عبيده، ورفقت بهم ولم تشقق عليهم.