محمد العسيرى يكتب: الصعيد مش ناقص
لولا الدعوة الكريمة من الزميل وائل الإبراشى للمشاركة فى إحدى حلقات برنامجه «العاشرة مساء» ما فتحت هذا الموضوع أصلًا.. لكن الكيل طفح.. وما يأتينى من مراسلات وهواتف الأهل فى الصعيد يجعلنى أكمل ما بدأت فى حلقة العاشرة.
الحكاية باختصار أن البعض لا يعرف طبيعة الصعيد وناسه.. ويظن أن صبرهم ليس له حدود.. وأن صمتهم ضعف وتخاذل.. وأن تطنيشهم «عادى».. تلك الصورة الذهنية القاصرة.. أصحابها لا يختلفون كثيرًا عن أولئك الساسة الذين تجاهلوا تلك البلاد التى تصعد إلى أعلى كلما اتجهت جنوبًا، على حد تعبير عمنا جمال حمدان.. وتسببوا فى إفقاره وتهميشه وزيادة عزلته.
هذه النظرة الضيقة للصعيد وناسه ومشكلاته منذ ما يقرب من أربعين سنة أدت إلى أن يشعر أهلنا هناك بأن هذه السلطة المركزية.. بمحافظيها ووزرائها وفنها وثقافتها لا تعترف بهم ولا تراهم، وتنظر إليهم من عليائها، ولا تتذكرهم إلا فى مواسم الانتخابات.. فبادلوها نظرة بنظرة.. وجرحًا بجرح «عايزين أصواتنا.. هاتولنا شوية خدمات».. وهذا ما كان يفعله الحزب الوطنى الحاكم وقتها لسنوات طويلة وضحك الصعايدة عليه فى النهاية.. كان يأخذ أصواتهم.. ويمنحهم كراسى عائلاتهم.. وانتهينا.. لكن أخطر ما فى المسألة هو الشعور باستمرار ذلك من خلال أخطاء غير مقصودة لأن مرتكبيها لا يتعمدون ذلك، ولكن إهمالهم وعدم تمكنهم من أدواتهم يؤديان بهم لتلك النتيجة.
المسألة ليست مسلسلًا به مجموعة نكات بايخة تسخر من شخير رجل صعيدى فى السينما.. أو تصور رجاله كمجموعة من تجار الآثار والمهربين وبائعى التاريخ.. المسألة أكبر من ذلك فى ظنى.. فنحن أولًا- لو كنا مؤمنين حقًا بنظرية الفن للفن- نهدر هذه القيمة عندما نستعير صعيدًا افتراضيًا ونرسم شخصيات من الخيال ونخلق نموذج «آل كابونى» من محمد رمضان أو غيره لمجرد جنى أموال من الإعلانات، فهذه النكت البايخة ينتهى مفعولها عند صناعها بمجرد «لم القرشين»، لكن أثرها السيئ سيستمر.. ويتسبب فى ألم نفسى وتخريب لنموذج الشخصية الصعيدية فى الواقع.. وهو ما يعانى منه أهلنا العاملون فى الخليج العربى تحديدًا الذين يتعرضون لسخرية الأشقاء دون قصد منهم وهم يظنون أنهم يمرحون معنا.
ثانيًا: «قيمة القوى الناعمة التى نريدها» ونريد أن نحافظ عليها.. لا يتم ذلك ببناء نماذج مشوهة من الأبطال.. وحتى لو تحجج البعض بأن داخل هذه المسلسلات نماذج وطنية وجيدة أيضًا، فقد تاهت هذه النماذج وسط عالم ملىء بالتشويه.
لا يمكنك يا عمنا أن تفعل مثل شيخ رواية يوسف إدريس.. لماذا أضأت النور يا لى لى؟» بعد أن تعود كل أهل حارتك على إدمان المخدر وتطلب منهم «الصلاة».. هذا هو العبث بعينه.
فى دولة تسعى للبناء.. لا يصح أن تخدش عقل وضمير من يبنى، وترجع تقوله كنت بهزر، لا اللحظة التى نعيشها ولا الظروف الاقتصادية التى نمر بها تسمح بذلك التنكيت السمج.
لا يطلب الصعايدة ميزة.. أو أن تمدحوهم.. أو حتى إلقاء الضوء على نماذج مشرفة منهم.. ارجعوا لمسلسل عظيم اسمه «الأيام».. وممثل أجمل اسمه أحمد زكى.. ارجعوا لنماذج أسامة أنور عكاشة فى «الحلمية».. وشوفوا زينهم السماحى عمل إيه فى دول المغرب العربى وفى الصورة الذهنية التى رسمها عندهم لابن البلد المصرى.. هذه ليست لعبة.
لا أطالب برقابة من أى نوع على الفن.. أطلب فقط من صناعه أن يكونوا «فنانين».. لا نطلب الحجر على أخطاء أحد.. فقط قم بتوصيلها بشكل جيد كما تقول قواعد وأصول ذلك الفن.. فيلمًا كان أو مسلسلًا أو أغنية.
ولن أذكركم بماذا فعلت الدولة حين احتاجت أن تبنى مشروعًا ثقافيًا فى الستينيات.. لن أذكركم بما أنتجته مؤسسة السينما.. ولن أشير إلى التأثير الذى فعلته مسلسلات أنتجتها الدولة فى أوقات لاحقة مثل «الهجان، وأم كلثوم، والضوء الشارد، وذئاب الجبل»، وغيرها.. وبحسبة الفلوس نفسها الفن الهابط يجيب فلوس مرة واحدة.. لكن الفن المخبوز جيدًا على نار هادئة يتم بيعه أكثر من مرة ولسنوات متعددة.
يكفى أهل الصعيد ما يلاقونه من إعلانات سمجة عن فقره والشحاتة باسمه واسم أبنائه من جمعيات بلهاء تمارس النصب العلنى باسم الصعيد وباسم الفقراء، حتى وصل الأمر إلى إهدار قيمة التكافل نفسها.
الأمر يحتاج لمناقشة هادئة وعقول مفتوحة.. عقول لا تعيش فى عوالم افتراضية.. عقول تعرف أننا أغنياء بهؤلاء البشر الذين نتعمد إهانتهم وكسر خواطرهم «عشان نلم شوية فلوس».. هذه صناعة كبرى.. وهذه حرب كبرى أيضًا.. فمن يعرف أن الإعلام يتم استخدامه فى الحروب الجديدة لبث الشائعات وإحباط الناس وتدمير اقتصادهم.. يعرف أن الفنون أيضًا إحدى أهم أدوات تلك الحرب وأسرعها تأثيرًا وقدرة على تفتيت ما هو «مجموع».. وتخريب ما هو ثابت.. و«ده لو مش واخدين بالكم لعب فى العصب».. انتبهوا يرحمكم الله.. ويغفر لكم ما تقدم وما تأخر من ذنوب مسلسلاتكم الرديئة.