رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوزير الناجح وتوجهاته الكاشفة


على مدى أكثر من قرن من الزمان عاش المواطن المصرى مع تطبيقات العديد من النظم التعليمية والتربوية فى ظل حكم سلاطين وملوك ورؤساء تباينت فيها الظروف التاريخية الحاكمة والمؤثرة والمختلفة فى تبعاتها على شكل العلاقة بين الناس والمؤسسات التعليمية.
عبر كل حقب ذلك القرن كانت المؤسسة التعليمية إلى حد كبير مرآة عاكسة لتوجهات الدولة والإجابة عن سؤال صاحب القرار «إن كان اهتم وسأل»: ما المأمول من التعليم.. ومن هو المتعلم؟ كيف تحقق المدرسة الأهداف العليا للأنظمة والحكومات بداية من أزمنة حكومات تحت الاحتلال ومرورًا بعهود شهدت العديد من أشكال التواصل الحضارى مع دول العالم المتقدمة عبر استعارة شكل النظم والإدارة والمناهج وابتعاث المعلم، وعهود شهدت حالة رائعة من تعاون مؤسسات المجتمع المدنى والمؤسسات الأهلية والخيرية لدعم العملية التعليمية.
وعهود أخرى شهدت نشاط إرساليات دينية لها اهتمام بالتعليم، وحقب انتشار التعليم الأزهرى وإنشاء المعاهد الدينية وجامعة لتخريج الطبيب والمهندس الأزهرى الدارس بجانب علوم التخصص علوم الدين الإسلامى فقط باعتبارها جامعة إسلامية لا تقبل غير المسلم.. إلى آخر تلك الأشكال ونوعيات التربية والتعليم التى تكرس العديد من أشكال التمييز الطبقى والعلمى والدينى والمذهبى والإقليمى والمحلى، وعلى الوزارة المعنية الإجابة عن الأسئلة السابق طرحها حول شكل المنتج النهائى لتلك المؤسسات، ومدى صلاحيتها فى إخراج مواطن صالح مستنير منتمٍ ومحب لمجتمعه والوطن فى ظل ظروف تراجع تكافؤ الفرص بين خريجى تلك الأنظمة المتباينة الأهداف والنوعيات والتكاليف والانتماءات.
حكى لى والدى رحمه الله كيف حاول هو وأقرانه من التلاميذ الصعود على سور أحد النوادى للاستماع لمتابة حديث الدكتور طه حسين، وزير التعليم آنئذ، فى ندوة مع أهل الاختصاص، ووصف لى مدى فرحتهم عقب إعلانه فى تلك الليلة أن التعليم كالماء والهواء ينبغى أن يكون بالمجان للجميع، وكيف أنهم ركضوا مسرعين إلى أهاليهم ليبلغوهم النبأ السعيد.. نعم، خبر طيب ومفرح، وهكذا فى كل زمان ومكان هو وقع كل قرار يحقق للناس أى شكل من أشكال تحقيق العدالة الاجتماعية أو إلغاء أى ممارسة تمييزية لا تتعلق معاييرها بالكفاءة أو مدى بذل الجهد أو تقدير المواهب والملكات الخاصة لدى المنتفع المستحق النفع.
وعليه، كان أمر ثورة أهل الانتفاع غير المستحق على وزير التربية والتعليم فى سياق رد الفعل المنطقى المتوقع وليس المنطقى المأمول، فأولياء أمور الطلاب المنتفعين بمكاسب المدارس التجريبية واللغات والأجنبية والدولية، وغيرها توجسوا خيفة لحدوث تعديلات فى إطار سعى الوزير وعبر معالم خطته المبدعة فيبارحون بعض المكاسب الخاصة على حساب ضياع مكاسب أهم يمكن أن تحققها الخطوات القادمة لخطة الوزارة الجديدة نحو تأهيل كل مدارسنا لكى تكون جاذبة توفر متعة التعلم لأجيالنا القادمة، وتكون جديرة وقادرة على تخريج متعلمين بحق، وليسوا مجرد حاملى شهادات.
نعم، كان من المنطقى والمتوقع أن تهتز الأرض تحت أعضاء ممالك مراكز ومافيا الدروس الخصوصية والوزير يعلن الذهاب إلى التخفيف من غلواء امتحانات الثانوية العامة.. وأنه يخشى واضعى المناهج الكلاسيكية القديمة التراثية الفلكلورية والوزير يعلن عن البحث عن مناهج تفاعلية يشارك فيها الطلاب بالبحث والسعى لآفاق أكثر اتساعًا فى دنيا المعرفة وأسرع سعيًا نحو التواصل الحضارى مع العالم.
نعم، كان من المنطقى والمتوقع أن تهتز الأرض تحت أعضاء ممالك الطباعة والنشر والوزير يعلن أهمية التعليم الإلكترونى والتفاعلى وإنشاء مواقع إلكترونية عالية التجهيز ومنح أجهزة «تابلت» للطلاب فى المراحل التجريبية الأولى، ويتم تعميم التجربة فى مراحل لاحقة، وقد يشكو الوزير ويغضب من افتكاساته أطباء العظام والعمود الفقرى، فلم تعد هناك شكوى من جانب فلذات أكبادنا من حمل حقائب كتب الوزارة الغاشمة وباتت عظام ظهورهم على أحسن حال مع الأسطوانات الإلكترونية و«الفلاشات» الحاملة لكل الإبداعات الوزارية المقدمة بشكل مبهر ومحبب لطلاب وزارة الدكتور شوقى.
فقد وصلت المدرسة المصرية إلى مرحلة باتت آفاقها مسدودة، وباتت تمثل عبر كل مراحل تشغيلها عروضًا تراجيدية تمثل المأساة وصراع الأجيال، وتعكس بكل وضوح حالة التطاحن الاجتماعى والتفاوت الطبقى؛ لأن النظام التربوى يتطابق كل التطابق مع المجتمع الطبقى العام، وبما أنه من صنع طبقة احترفت التمسك بمقاليد الثقافة التجارية التى باعت لأولادنا التعليم على أرصفة أسواق ومتاجر هادفة للربح أو غير هادفة للربح حكومية للتربح فى بعض الأحيان.