رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعليم الحرية


كَثُرَ الحديث فى الفترة الأخيرة حول قضية التعليم، بمناسبة المشروع الذى طرحه وزير التربية والتعليم، «طارق شوقى»، لتطوير أنظمته، وأيضًا بسبب قرض الخمسمائة مليون دولار، المقدم من «صندوق البنك الدولى»، لـ«دعم عملية إصلاح التعليم» فى مصر، والذى وقّعه الوزير، برفقة الدكتورة «سحر نصر»، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولى، بمقر البنك الدولى بالعاصمة الأمريكية واشنطن، يوم ٢٠ أبريل الماضى.
حسبما أُعلن من تفاصيل المشروع، فإن البنك قَدّمَ للوزارة رُبع ما قدّره من احتياج مصر المادى لتكلفة عملية إصلاح منظومة التعليم، والبالغة مليارى دولار، على أن تستكمل مصر المبلغ المتبقى من خلال موازنة الدولة، وجهات تمويل أخرى مثل: منظمة «الجايكا» اليابانية، المعونة الأمريكية، منظمة «اليونسكو»، «اليونيسف».
والمدهش فى الحوار الدائر حول هذه القضية الحسّاسة، والذى شمل مقالات العشرات من الصحفيين، وجلسات الرغى فى برامج «التوك شو»، وتعليقات الهرى والطحن على مواقع «السوشيال ميديا»، أنها جميعًا، وبلا استثناء يُذكر، ركّزت جُلَّ همها إما على استقباح مبادرة الوزير وصفقة قرض البنك والتشهير بهما، وإما إلى التهليل الأهطل لهما، وكأن الوزير، عبرهما، فتح عكا، أو «جاب الديب من ديله»!.
ولقد انصبت كل المداخلات التى تناولت هذا الموضوع حول الإجراءات التقنية لهذه العملية: أى حول التغيرات التى ستلحق بشكل المدرسة، والحصص الدراسية، وأدوات التحصيل، وسنوات الدراسة، والمواد التى سيتم تدريسها.. إلخ، وهو أمر ضرورى فى كل الأحوال. غير أن المثير للعجب أن أيًا من الرأيين: القادح والمُهلل، لم يتطرق من قريب أو بعيد، إلى الموضوع الأهم فى الأمر كله، والذى دون تحقيقه فلا إصلاح ولا «دياولو»، وستكون «العملية» ككل مثل ما سبقها من «عمليات»، فى التعليم وغير التعليم، محض بروباجندا أقرب للأونطة، الهدف منها غائم، والنتيجة المتحققة صفر كبير، تضيع فيها ملايين القرض أدراج الرياح، ويتحمل المواطن الغلبان تكاليف تسديده.
وقبل أن نشرح ما المعنى بـ«تعليم الحرية»، لا بد مما ليس منه بُد، من إعادة الإشارة إلى وضعية التعليم البائسة فى بلادنا، والتى لا تخفى على لبيب، فترتيبنا فى جودة التعليم، فى ذيل القائمة، ومستوى التحصيل للتلميذ المصرى، متواضع للغاية، ومستوى وعيه العام، أكثر تواضعًا.
أما عن مهاراته وقدراته، خارج المقرر فحدث ولا حرج، وينصب جهده وجهد أهله ومعلميه، أن يتلقن المادة التى سيمتحن فيها، فيحفظها غيبًا كالببغاء، حتى لحظة الامتحان، فيصب على صفحة الإجابة ما قَدرت ذاكرته على حفظه، ثم يخرج من العام الدراسى «يا مولاى كما خلقتنى»، بعد ضياع عشرات الآلاف من الجنيهات، وآلاف الساعات من الجهد العبثى، بلا طائل أو مردود.
ولعل «العملية التعليمية المصرية» هى الأعجب فى العالم كله، حيث تبدد الحكومة، وذوو التلاميذ، عشرات المليارات سنويًا (حسب الموازنة العامة للدولة: ١١٥ مليارًا و٦٦٧ مليون جنيه = ٨٪ من إجمالى الموازنة، تنفق على التعليم)، تصرف على مدارس لا يدخلها الطلاب إلا نادرًا، ومعلمين لا يُعَلِّمون إلا قليلًا، وعلى جيش جرّار من الموظفين الذين لا يعملون إلا النذر اليسير، (يبلغ عددهم فى «الديوان العام للوزارة»، وحده، نحو ٧ آلاف موظف، وجملة مصروفات الديوان، للعام المالى ٢٠١٨ ٢٠١٩، قُدِّرت بـ٥ مليارات و٤١٩ مليونًا و٦٥٧ ألف جنيه!). ودروس خصوصية لا تتوقف عن عصر أولياء الأمور، وتنفيض جيوبهم، لتدبير نفقاتها الهائلة، وكتب مدرسية لا يفتحها التلميذ، لأنها كئيبة الشكل باهتة المضمون، إلا من رحم ربى!.. والمؤسف أن هذا كله يذهب أدراج الرياح، وهو أمر يوجب أن يهب المجتمع كله من أجل علاجه.