رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاسبوهم.. إنها بيوت الله


جميل أن تُراجع أى إدارة حكومية أو غير حكومية الأشكال والإطارات المنظمة لدولاب العمل لديها، بالتقييم والتصويب واتخاذ التدابير اللازمة للتعديل وتوفيق الأوضاع، لتتماهى وتنسجم مع أى ‏متغيرات تكون قد فرضت وجودها على المناخ العام الذى يحكم علاقات تلك الإدارة مع غيرها من إدارات مؤسسات الدولة، وأيضًا مع ما يطرأ من متغيرات عامة، اقتصادية وسياسية واجتماعية ‏وثقافية، عدلت بشكل أو آخر الأهداف العامة والتوجهات السابق العمل بها.‏

واعتياد فريق عمل الإدارة تأديتها بآلية ميكانيكية دون تفكير.. وعليه، فإنه من المرحب به بالطبع ما صدر مؤخرًا عن إدارة وزارة الأوقاف من تعليمات يلتزم بها الأئمة فى المساجد خلال شهر ‏رمضان المبارك، والتى من بينها: التركيز على القيم الأخلاقية والإنسانية وقيم التسامح والعلاقات الأسرية والمجتمعية والإنسانية السوية.. قصر استخدام مكبرات الصوت الخارجية على الأذان ‏وخطبة الجمعة، وأن تكون السماعات الداخلية مناسبة لداخل المسجد فقط وعلى قدر الحاجة.. عدم الإسراف فى استخدام الكهرباء بأى شكل من الأشكال، والحرص على ترشيد الطاقة، وعدم تحمل أى ‏نفقات تتصل بأعمال الزينة.. ولكن، تبقى تلك التعليمات وغيرها مما لا يتسع المجال هنا لسردها مجرد رسائل مناسبات بروتوكولية اعتادت مؤسساتنا الدينية المركزية إخراجها من الأدراج، وإطلاقها ‏لعموم تابعيها فى الميعاد على أرض المحروسة، وما من وسائل وآليات متابعة وحساب على ارتكاب من يخالفها، فكيف يكون الحساب على مجرد نداءات عاطفية بجمل تعبيرية رومانسية حول القيم ‏الأخلاقية والتسامح اللذيذ والعلاقات العائلية دون إعلان محددات عملية وآليات ثواب وعقاب والجهات المنوط بها المراقبة والمحاسبة؟!.. كنت أتصور أن يكون أحد أهم أدوار الكيان الكسول «بيت ‏العائلة»، الاستعانة بفريق من المتخصصين فى مجالات الإدارة وعلوم الاجتماع والنفس والقانون، مع رجال الدين والعلماء والفقهاء لوضع آليات ومحددات لتشغيل تلك المنشآت بالشكل الذى يليق ‏بمسمى أنها «بيوت الله».. فى واحدة من إشاراته طيبة الوقْع والرائعة فى دلالة توقيت إعلانها ورجع صداها الإنسانى، قال الرئيس السيسى خلال مشاركته فى قداس عيد الميلاد بالكاتدرائية «أنتهز ‏الفرصة دى وأقول يا رب أنا هنا فى بيت من بيوت الله.. يا رب احفظ مصر.. يا رب الاستقرار لمصر، ويا رب أغننا من فضلك عمن سواك».. إنه التقدير الطيب لقدر ودور «بيوت الله».. ‏وبمناسبة الاحتفال هذا العام بمئوية مدارس الأحد، ومنذ نصف قرن وفى أحد فصولها فى بيت من بيوت الله، رفعت يدى طالبًا الكلمة وسألت أستاذنا: «دايمًا بتكلمونا فى البيوت عن التوفير فى استخدام ‏الكهربا ولا داعى للإضاءة بالنهار، وكلمتونا إن ربنا بيحب عبيده اللى بيتصرفوا بحكمة ووعى، لكن بنيجى الكنيسة بنلاقى الإضاءة شغالة ليل نهار، هو ربنا هيحاسب مين على الكهربا دى اللى من ‏غير لازمة؟!».‏

فى مقال للكاتب الصحفى البارز عماد الدين حسين عام ٢٠١٤.. «عام استمرار كوارث انقطاع الكهرباء»، كتب «.. نعود إلى أصل القصة، ونسأل: إذا كانت مصر تعانى مشكلة جوهرية فى ‏الوقود والكهرباء، فهل من المنطقى ما يحدث من هدر رهيب للكهرباء فى مآذن المساجد وبعض الكنائس؟!.. على حد علمى فإن بعض الفقهاء أفتوا بوقف أداء فريضة الحج وهى الركن الخامس ‏فى الإسلام، إذا كانت الدولة تحتاج أموال الحج من أجل إطعام الناس، وبالتالى فإن هدر الكهرباء بهذه الطريقة ضد مبادئ الإسلام. لا أعلم كيف وصل الناس إلى هذه الدرجة من الانفصام، يؤدون ‏الصلاة فى الداخل ثم يسمحون بهذا الهدر فى الطاقة فى الخارج؟... وحتى إذا كانت المساجد والكنائس تدفع نظير ما تستهلكه من كهرباء، فإن هذا الهدر يجافى أى منطق، أتمنى من وزير الأوقاف ‏وسائر المسئولين أن يُلزموا المساجد بالاقتصاد فى الكهرباء والمياه، وأن يتم فصل كل التيار الكهربائى بعد انتهاء أى صلاة والفصل الكامل بعد صلاة العشاء، على أن تترك لمبة واحدة فوق كل ‏مئذنة كعلامة إرشادية، وأتمنى أيضًا أن يتم التعميم على الكنائس إذا كانت تفعل الأمر نفسه، وكذلك أى مؤسسة حكومية.. مشكلة هدر التيار الكهربائى ليست مشكلة الحكومة، عمليًا هى مشكلة ‏الشعب الذى يعتقد غالبيته أنه لا مشكلة إذا تركنا كل لمبات الوزارة أو الهيئة أو المؤسسة أو المسجد مضاءة، طالما أن الدولة هى التى ستتحمل، وننسى أننا نحن الذين سوف ندفع الفاتورة فى ‏النهاية».. وفى نهاية مقاله يضيف «المطلوب من السادة المسئولين معاقبة إمام المسجد أو أى مسئول أو موظف أو عامل إذا ترك الأنوار مضاءة بعد أداء الصلاة». انتهى كلام الكاتب رئيس تحرير ‏‏«الشروق».. هناك كنائس ومساجد تتبعها منشآت تحقق مكاسب مالية هائلة مثل المستوصفات ودور المناسبات ودور المسنين، ومدارس ومراكز الدروس الخصوصية وغيرها، فلا أقل من تغطية ‏نفقات استهلاك الكهرباء والماء لبيوت الله أو النسبة الأكبر من استحقاقاتها.. إن الانهيار الاقتصادى يحدث أحيانًا للدول، ليس عجزًا فى تدبير الأموال، لكنه فائض فى الإهدار السفيه للمقدرات ‏والثروات.‏