رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لقطات من دفتر الرحلة الروسية


من الوهلة الأولى، تبدو روسيا، كسائر الدول الأوروبية، مجتمعًا حضاريًا، أبرز مظاهر حياته الانصياع الحازم للنظام، يبدو ذلك جليًا فى الطرز المعمارية التى تلتزم بمعايير صارمة فى البناء، منذ العهد القيصرى، وفى ظل النظام السوفيتى، وحتى الآن، وكذلك فى حياة المواطنين اليومية.

ففى الشارع إذا انتبهت إلى حركة المرور، بالنسبة للسائقين وللجمهور: لا أحد يتخطى إشارات الطريق الحمراء، حتى فى ساعات الفجر، وعبور الطريق من مواقعها حتى حال غياب السيارات، والكل يسعى منذ ساعات الفجر إلى أعماله وقضاء مصالحه، بجدية وانضباط، والحديث بين الناس بصوت خفيض واحترام، ولا أحد يتحجج بالبرد أو الأمطار أو الثلوج، التى كست وجه الشوارع والبيوت بغلالة بيضاء، للتنصل من التزاماته وواجباته.

غير أن روسيا تتميز ـ بصورة خاصة ـ بنوع من الدفء الإنسانى، يلمسه المرء سريعًا، وربما يفتقده فى الكثير من الدول الغربية الأخرى، وقد يكون أساس هذا الشعور العلاقة التاريخية بين مصر وروسيا، التى توفر مساحة من الود والانفتاح الفورى، أو مرجعه الطباع الوجدانية المتقاربة بين أناس البلدين، أو لأسباب أخرى.
لكن ما تكرر أمامى لمرات ثلاث، فى غضون أسبوع واحد، وهو الأمر الذى لفت نظرى بشدة، أمر مهم وله علاقة وطيدة بنا وبمستقبل أجيالنا، ففى هذه الزيارة التى أتت فى مناسبة احتفال «معهد الاستشراق» بأكاديمية العلوم الروسية، بمئوية الرئيس جمال عبدالناصر، وهو معهد رصين وشهير يتخرج فيه الساسة ورجال الدبلوماسية والإعلاميون والمتخصصون بشئون عالمنا الشرقى، وعمره مائتا عام بالتمام (١٨١٨ ـ ٢٠١٨)، تيسر لى ولزملائى أن نزور عددًا من المواقع الثقافية والفكرية المهمة، كان منها، إضافةً إلى المعهد، مقر «المكتبة الوطنية» ومتحف «الأرميتاج» العظيم، ومقابر شهداء الحرب الوطنية العظمى، بـ«سان بترسبورج»، ومتحف الفضاء بـ«موسكو»، وغيرها.

الظاهرة اللافتة، والمتكررة، لدى زيارة هذه المواقع، هى طوابير الأطفال الروس، من تلاميذ المدارس الابتدائية، الممتلئين، صحةً وعافية، والذين يرتدون ملابس بهيجة ومناسبة للطقس، ويحمل أغلبهم أجهزة «الموبايل» الخاصة بهم، تقودهم معلمة نشطة، يتحركون فى صفوف منتظمة، يلتفون حول عمل فنى، يلتقطون له الصور، ويستمعون لشرح المرشدين له، أو يجلسون أمام تمثال بديع ويحاولون رسم ملامحه بأقلامهم على صفحات دفاترهم، أو يتحلقون حول نموذجٍ لمركبةٍ فضائية أو صاروخ، أو مجسمٍ لرواد الفضاء، بزيهم التقليدى وخوذاتهم المعروفة، ينصتون إلى التفاصيل العلمية التى يشرحها المتخصصون، فى حدود ما يمكنهم فهمه.
لكن الأجمل فى هذه المشاهد كان أمام النصب التذكارى لمقابر شهداء الحرب الوطنية العظمى، بمدينة «سان بترسبورج»، أو «ليننجراد» خلال العهد السوفيتى، وهم نحو المليون، قضوا دفاعًا عن مدينتهم، فى مواجهة العدوان النازى فى الحرب العالمية الثانية، وهو صرح مهيب مُهيأ على مساحة شاسعة، تتقدمه «الشعلة الخالدة»، التى تظل موقدة دائمًا، تحية لذكراهم البطولية، ولتذكير الأجيال الجديدة بأن هناك من ضحى بحياته دفاعًا عن وجودهم وحريتهم.

تحت الثلوج العاصفة، وقف الأطفال فى انتظام أمام هذا المشهد المهيب، تتقدمهم مدرستهم، ومديرة الموقع، التى طلبت منهم بلطف وحسم، وامتثلوا فورًا، ألا يبتسموا أو يضحكوا، وأن يقفوا بخشوعٍ وانضباط، احترامًا لذكرى الأبطال الذين دافعوا عن مدينتهم حتى الاستشهاد، والتى راحت تروى لهم ملحمة من
ملاحم بطولاتهم ونضالهم!.
من خلال هذه المشاهد المتواترة، تأكدت أن تواجد مجموعات الأطفال فى هذه المواقع، العامرة بالمعرفة والتاريخ، ليس صدفةً أو حدثًا عارضًا، وإنما هى سياسة تربوية مقصودة، ليتنا نتعلم منها، لتربية روح الانتماء عند الأجيال التى سرعان ما ستتحمل المسئولية.